تقترن العبادة الجسدية بالخشوع والإخلاص والمحبة القلبية في آيات الذكر الحكيم، فيقول الله سبحانه : قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5] بل ولقد اقترن قبول العمل يوم القيامة بالقلب، لقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[سورة الشعراء الآية: 88-89]
وقد شهد النبي يوما صلاة أحد الرجال، وهذا ما دار بينهما: «رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فَأَخَفَّ الصَّلَاةَ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ قُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ خَفَّفْتَ، قَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَنِي انْتَقَصْتُ مِنْ حُدُودِهَا شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي بَادَرْتُ بِهَا سَهْوَةَ الشَّيْطَانِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا» رواه الإمام أحمد وأبوداود؛ أي بالعبرة ليست بحركات الجسد، وإنما بما وقر في القلب بالتوازي معها وقبلها.
وكما قال تعالى {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37] أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط. ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة..
وكما للجسد عبادة، فإن للقلب عبادة تسبقه، ولكن الناس يختلفون في علاقتهم بأعمال القلوب والجوارح، وفي السير إلى الله، على أقسام:
وهؤولاؤ صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض الى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازل أحكامها, وان لم يكونوا خالين من أصلها ولكن هممهم مصروفة الى الاستكثار من الأعمال، فيكثر من الصلاة والصوم والذكر لله بدون عناية بأعمال القلوب التي تصاحبها ولا تنفك عنها، فيكثر من الصلاة بلا خشوع، والذكر بلا حضور قلب، ولا ينتبه لنفسه ويعالج ما فيها من كبر أو حسد أو حقد، ولا شك أن العبادة الظاهرة التي يفعلها تحسن من حال قلبه، لكن تقصيره في الاهتمام بقلبه الذي هو الملك الذي يحرك الجوارح ينقص سيره لله ويضعفه.
وهؤلاء اعتنوا بأعمال قلوبهم وتزكيتها وتنقيتها وظهر هذا جوارحهم، فجمعوا عبودية الباطن والظاهر، صلحت قلوبهم فكانت لله مخبتة خاشعة محبة خائفة راجية تائبة أوابه، فصلحت جوارحهم وأعمالهم لله. [ابن القيم- بدائع الفوائد:209]
قال ابن القيم " قال أبو الدرداء رضي الله عنه:" يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم, والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترّين". وهذا من جواهر الكلام, وأدله على كمال فقه الصحابة, وتقدمهم على من بعدهم في كل خير, رضي الله عنهم.
فاعلم أن العبد انما قطع منازل السير الى الله بقلبه وهمته لا ببدنه. والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح. قال تعالى:(ذلك ومن يعظّم شعائر الله فانها من تقوى القلوب) الحج32, وقال:(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ينالها التقوى منكم)الحج37, وقال النبي e:" التقوى هاهنا" وأشار الى صدره, مسلم في كتاب البر والصلة والآداب 4\1986 رقم32. فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة, وعلو الهمة, وتجريد القصد, وصحة النية مع العمل القليل, أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق. فان العزيمة والمحبة تذهب المشقة, وتطيب السير, والتقدم والسبق الى الله سبحانه انما هو بالهمم, وصدق الرغبة والعزيمة, فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل, فان ساواه في همته تقدم عليه بعمله" الفوائد