الدنيا هي الدار التي نعيش فيها الآن، وقد تساءل الكثيرون عن سبب وجودهم فيها، فلم يعرفوا لماذا جاءوا ولا إلى أين سيُذهب بهم، ولا الحكمة من خلق تلك الحياة من الأساس حتى لقد قال قائلهم:
جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت.
ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت.
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت.
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
فكثير من الناس يعيش الدنيا على أنها هي كل شئ، وبالتالي فهي كل همه وطموحه، ومن هذا الصنف أيضًا أناس يؤمنون بالآخرة نظريًا لكنهم يتعاملون مع الدنيا على أنها كل شئ، ويطلبونها بأقصى طاقتهم كأنه لا بعث ولا نشور، وقد لا يفلح أغلبهم في نيل ما يريد من الدنيا فيخسر كل شئ.
وقد لخص الحق تبارك وتعالى سبب وجودنا في الدنيا وهدف خلقه لنا جميعًا فقال:( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [سورة الذاريات:56]
وحذرنا النبي الكريم ﷺ من الالتهاء بالدنيا عن هذا الهدف قائلاً (من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن ماجه، وفي رواية (من كانت نيته طلب الآخرة؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا؛ جعل الله الفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له) صححه الألباني.
فالدنيا حقيرة، والفوز فيها صبر ساعة ثم نلقى الله بعدها، وعلى العاقل أن يتذكر أن غمسة واحدة في الجنة تنسي العبد كل شقائه في الدنيا، فقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: (يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرّ بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط) رواه مسلم.
وكما قال النبي ﷺ: (من جعل الهموم همًا واحدا، هم المعاد، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك) رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
قال ابن القيم في الرسالة التبوكية: " وأول الأمر وآخره: إنما هو معاملةُ الله وحده، والانقطاعُ إليه بكُلِّيَّهِ القلب، ودوامُ الافتقارِ إليه، فلو وَفَّى العبدُ هذا المقامَ حقَّه لرأى العجبَ العجيبَ من فضلِ ربّه وبرّه ولطفه ودفاعه عنه، والإقبالِ بقلوب عبادِه إليه، وإسكانِ الرّحمة والمحبةِ له في قلوبهم".
الحياة الدنيا إنما أوجدها الله لحكم عظيمة، فلم نُخلق عبثًا أو لهوًا-تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-، فمن صفات الله "الحكمة"، فهو سبحانه يخلق لِحِكَمٍ بالغة عظيمة، عَلِمَها من عَلِمها، وجَهِلها من جهلها، وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن؛ قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون: 115،116]
وقال أيضًا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) [الأنبياء:16]
فلا شيء في الكون يجري بلا حكمة، فما بالنا بإيجاد هذا الكون من الأساس؟!
وقال ﷻ: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان:38-39]
فحال أكثر الناس الجهل بسبب وجودهم؛ فهم لا يعلمون لماذا جاءوا إلى هنا، ولا يدركون شيئًا عن هدف حياتهم.
ولذلك نجد معظم البشر هَمِّهِم التمتع بالشهوات ويعيشون حياة كالبهائم التي تقضي حياتها تأكل وتشرب وتتكاثر وتتشاجر، بل هم أضل من تلك المخلوقات التي لا تعقل، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد:12]
وقال واصفًا حال هؤلاء: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179]
ومن المعلوم أن الذي يصنع الشيء هو أدرى بالحكمة منه من غيره، ولله المثل الأعلى فإنه هو الذي خلق الدنيا وهو الذي يعلم لماذا خلقها، وأي مصنوع يصنع لا يكون صنعه إلا لعمل وفق مراد الذي صنعه وكذلك الإنسان ما كان ليعمل إلا وفق مراد خالقه.
نصَّ الله تعالى على الحكمة من خلق الحياة الدنيا قائلا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]
قال ابن كثير رحمه الله:أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم.
فالحكمة من خلق الإنسان هو أن يكون عبداً لله، ليمتحنه ربه أيطيعه أم يعصيه، ثم ينقله بالموت من دار الامتحان إلى دار الجزاء، فكل إنسان ممتحن في هذه الدنيا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
قال تعالى عن هؤلاء: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7]
قال ابن عباس يعني: الكفار، يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال (تفسير ابن كثير).
ومن تمام هذا الهدف وهذا الامتحان أن يكون هناك ثواب وعقاب، وإلا لكان الامتحان نفسه عبثًا، لذا قال الله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الجاثية: 21-22]
وقال أيضًا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص: 27-28]
ففي هاتين الآيتين يؤكد الله ﷻ بما لا يدع مجالاً للتقول، أن هناك ثواب وعقاب، وجنة ونار، كي لا يستوي مصير من أحسن مع من أساء، فهذا ينافي العدل.
فلا بدّ من يوم حساب، يُكافأ فيه من أطاع وأدى الحقوق، ويعاقب الظالم الذي ربما مات في عنفوان قوته، وغناه، وسلطانه، وبطشه، ويؤخذ الحق للمظلوم الذي ربما مات وهو في غاية ضعفه، وهوانه، دون أن ينصفه أحد.
فهذه حكمة خلق الإِنسَان وحكمة التكليف وتحمل الأمانة, وإرسال الرسل وإنزال الكتب وافتراق النَّاس إِلَى فريقين، هذا يطيع الله، وهذا يعصيه، فهذا مصيره غير هذا.
فالمؤمن علم قيمة وجوده في هذه الحياة فاغتنم لحظاتها وسعى لاستغلال أوقاته في العمل الصالح، لأنه يضع نصب عينيه أن حياته هي في الحقيقة وقت الاختبار.
قال ابن القيم: إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها (الفوائد).
وبالمقابل تجد من لا يعرف ذلك يعيش حياته في ضيق وهم مهما فعل، لأنه يسير بلا بوصلة او خريطة، فخطواته خبط عشواء، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه:124] أي: معيشة ضيقة صعبة شاقة
اما المؤمن فتفكيره في الآخرة فيزن الأمور بمقاييسها لا بمقاييس الدنيا.
قال ابن الجوزي في فيض الخاطر: " همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمته شغله. ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة، رأيت البزار ينظر إلى الفرش ويحزر قيمة، والنجار إلى السقف، والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى النسيج المخيط. والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلما ذكر العقاب، وإن سمع صوتا فظيعا ذكر نفخة الصور.
وإن رأى الناس نياما ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة الجنة، فهمته متعلقة بمآثم، وذلك يشغله عن كل مأتم. وأعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة، وأن بقاءه لا ينقطع ولا يزول ولا يعتريه منغص، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبا في تلك اللذات الدائمة التي لا تفنى يطيش فرحا ويسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم ومرض وابتلاء وفقد محبوب وهجوم الموت ومعالجة غصصه، فإن المشتاق إلى الكعبة يهون عليه رمل زرود، والتائق إلى العافية لا يبالي بمرارة الدواء. ".
الابتلاء هو هدف وجود الإنسان في هذا الحياة الدنيا، والموت والحياة إنما وُجدوا من أجل تحقيق هذا الهدف؛ قال الله - ﷻ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2]
وهذه الكرة الأرضية التي تحملنا، وكل ما عليها من أشياء صغُرت أو كبُرت ما وُجدت إلا من أجل تحقيق هدف الحياة وهو ابتلاء البشر واختبارهم ليتبيّن المحسن من المسيء والمؤمن من الكافر؛ قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) [الكهف: 7 – 8]
أي: وإنا لمخرّبوا هذه الأرض بعد عمارتها بما كانت تمتلئ به من الزينة، فمصيرها بعد ذلك أن تصبح أرض مستوية جرداء لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس.
فالدنيا مجرد ساحة مُعَدَّة لإجراء اختبار محدد، وبمجرد انتهاء وقت هذا الاختبار سوف يتم هدم تلك الساحة لانتهاء الغرض الذي أُنشئت من أجله وهو ابتلاء العباد.
فالعلاقة التي تربط الإنسان بالحياة الدنيا في التصور الإسلامي، هي علاقةُ ابتلاء؛ أي: اختبار وامتحان، وهي تعني اختبارَ طاعة الإنسان لله واتِّباع تعاليمه في جميع شؤون الحياة، وهذا الابتلاء هو المظهر العمليُّ لعلاقة العبودية بين الله تعالى والإنسان، وعُمر الإنسان هو زمن هذا الاختبار الصعب.
فنحن الآن في ساحة امتحان كبيرة وكلما مضى العمر كلما أوشك وقت الاختبار على النفاذ لكن بخلاف اختبارات الدنيا فليس هناك وقت محدد معروف مُسبقًا لإنهاء اختبار وليس هناك شكل محدد للأسئلة فالمال امتحان، والأولاد امتحان، والفقر امتحان، وكلنا مُمتحن في كل ما نقابله في هذه الحياة حتى نلقى الله.
فما تَستقبله النفوس مما يُكره، هو ابتلاء لها على الرضا بقضاء الله والتسليم له، وكذلك الأشياء المحبوبة للإنسان هي امتحان أيضًا، فهناك نوعان من الابتلاء والفتنة:
النوع الأول: فتنة الضراء
فتنة الضراء تتمثل في المكروهات والمشاق التي يتعرض لها العبد في الدنيا، كالمرض والفقر وغيرها.
فالناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزَلَ بهم بلاءٌ صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمنُ إلى إيمانه، وصارَ المنافق إلى نِفَاقه.
النوع الثاني: فتنة السراء
فتنة السراء تتمثل في المحبوبات التي تحصل للعبد مثل الصحة والغنى والجاه.
وفتنة السراء لا تقل ضراوة عن سابقتها بل غالبًا ما تكون أشد منها لأن من طبيعتها أنها تُلهي القلب عن الله و تلهي الإنسان عن الاستعداد للموت وتغُر المبتلى بها بعكس الضراء التي قد تدفع صاحبها لمزيد من اللجوء إلى الله والتوبة أو مراجعة نفسه في بعض الأمور.
العبد يحتاج للتسلح بالصبر في حياته لتجاوز الفتن والابتلاءات على اختلاف أنواعها، قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)[البقرة:45]
وفي الحديث (ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) متفق عليه.
والصبر ثلاثة أنواع:
1-صبر على طاعة الله: كالصبر على الجوع والعطش في الصيام، والصبر على المشقة في أداء مناسك الحج.
2- صبر على أقدار الله المؤلمة: كالصبر على موت الأحبة وعدم التسخط والاعتراض على أقدار الله.
3-صبر عن معصية الله: كالصبر عن نيل الشهوات فيما حرم الله.
[الأنبياء: 35] (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)
قال ابن عباس رضى الله عنهما: بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام وكلها بلاء (عدة الصابرين).
وقال ابن يزيد: نبلوكم بما تحبون وما تكرهون لننظر كيف صبركم وشكركم فبما تحبون وما تكرهون (عدة الصابرين).
وقال الكلبى: بالشر بالفقر والبلاء والخير بالمال والولد (عدة الصابرين).
- (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1-3]
قال البيضاوي في التفسير: يمتحنهم الله بمشاق التكاليف، كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات
- أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142]
قال الرازي في التفسير الكبير: المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان.. واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله، وهذان الأمران مما لا يجتمعان، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما، وأيضا حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى، فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا
فهذا هو الذي سيجده كل إنسان في الدنيا، وهذا هو حالها الدائم؛ البلاء والفتن بأنواعها المختلفة من السراء والضراء.
"قلبٌ أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة" كالصخرةِ الملساء البيضاء ثابتا كثبوت الصخرة، فهو قلب مشرق منير بالإيمان كلون هذه الصخرة البيضاء، "على أبيض مثلُ الصفا لا تضره فتنة" تصور، "لا تضره فتنة" تمر به الفتن سالمة، "ما دامت السماوات" أي ما بقيت السماوات والأرض
"وقلب أسود مربادا أي" شديد السواد، مثل السواد "كالكوز مجخيا" أي كالكوز المقلوب "لا يعرف معروفا، ولا يُنكر منكرا، إلا ما أُشرب من هواه".
فالفتن تتلون بألوان وطرق مختلفة، فهي كثيرة ومتعددة، وكل واحدة منها تستهدف القلب فإن أصابته أحدثت فيه علامة سوداء، وإن قاومها أخذ علامة بيضاء، وما تزال الفتن تتكاثر حتى تصبح القلوب نوعان فقط: قلب أبيض وقلب أسود.
وهذا القلب الأسود لا يأبه للمعروف والمنكر، بل لا يأبه إلا لمصلحته الدنيوية فقط، فمقياسه هو الهوى، فالمنكر عنده ما ضر مصلحته الدنيوية، والمعروف ما وافق مصلحته وهواه.
فطيلة حياتِك ستبتلى، وتتعرض للفتن والمحن والابتلاءات بعضها أشد من بعض، على حسب إيمانك.
وهذا معناه أن أي فتنة ستكون على مقاس إيمانك، فلن يبتليك الله بفتنة أكبر من قدرتك، وأكبر من حجمك، فالله لا يظلم عباده، ولا يختبر العبد باختبار لا يطيقه، فهذا المعنى مهم جدا.
فليسابق العبد الفتن والبلاء بالعمل الصالح،
والمقصود بفتنة المحيا هو ما يتعرض له الإنسان من فتن في حياته، واغتراره بالدنيا وانشغاله بها، مما يصرفه عن ذكر الله تعالى وطاعته، فكلّ ما يُلهيك في الدنيا عن طاعة الله فهو فتنة المحيا.