عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: (إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا) رواه مسلم.
فوصف الدنيا بأنها حلوة وبأنها خَضِرة وهما معنيان تتعلق بهما النفوس، الأول: من جهة الطعم، والثاني: من جهة النظر، أما من جهة الطعم فلا شك أن النفس تستهويها الأشياء الحلوة، وجُبلت على محبتها.
الصفة الثانية للدنيا: أنها خضرة، وذلك أيضاً مما تطمح إليه النفوس، ويستهويها وتحبه من جهة اللون، فإن النفس تبتهج بلون الخضرة وتحبه، وتلتذ بالنظر إليه، فهي لذة من جهة النظر، فالمكان الأخضر أو النبات الأخضر، أو نحو ذلك شيء يبهج النفس، لأن لونها يعجب الناظرين.
والمعنى أن الدنيا حلوة المذاق وهي خضرة للعين والشيء الذي يكون حلو المذاق وخضر المرأى فإن العين ستطلبه اولا وثانيا ستطلبه النفس واذا اجتمعت الشهوتان فيخشى على الانسان من ان يقع فيه فيغتر وينهمك في الدنيا ويجعلها أكبر همه، مع أنها ليست ذات قيمة تستحق أن يتكالب عليها الناس، وأن يصرفوا أوقاتهم وأنفاسهم وأطماعهم، فتكون هذه الدنيا شغلاً شاغلاً لهم.
ومعنى (إن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون) يعني: يجعلكم خلفاء للذين كانوا قبلكم، نحن جئنا -هذا الجيل- وكانت أجيال قبلنا قد عمروا الأرض، فكل جيل يأخذ وقته وفرصته، ويُختبر في هذه الدنيا.
ومعنى (فاتقوا الدنيا) ليس معنى ذلك أن يتخلى الإنسان عنها ولا يعمرها، وإنما المعنى: احذروا من ان تغركم الدنيا، كما جاء في الحديث حينما قام رجل فقال: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي ﷺ، ثم قال: (أين السائل؟، قال: أنا، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضِرةٌ حلوةٌ، وإن كل ما أنبت الربيعُ يقتل حَبَطاً أو يُلِم، إلا آكلة الخضِر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس، فاجترّت وثَلَطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوةٌ، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع) رواه البخاري ومسلم.
ففي هذا الحديث تشبيه بليغ للدنيا وحال الناس معها فمطر الربيع ينبت الزرع الأخضر الحلو الذي تأكله الأنعام، لكن بعض هذه الحيوانات تأكل بشراهة ونهم هذا الزرع الأخضر الجميل وتستكثر منه حتى تهلك من كثرة الأكل فالحبَط: الدابة تأكل كثيراً وينتفخ بطنها ثم تموت، أو تقارب الإهلاك.
(إلا آكلة الخضِر)، والمقصود بها هي الدابة التي تأكل باعتدال فتنتفع بالطعام، إذ تترك لنفسها فرصة للهضم والاجترار وقضاء الحاجة، ثم إذا جاعت أكلت، وكذلك الذي يتهافت على الدنيا الحلوة الخضرة لا يكاد يقف عند حد معين، فتهلكه الدنيا من كثرة تكالبه عليها.
وهو نفس معنى حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ - t– في الصحيحين الذي قَالَ فيه: سَأَلتُ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - فَأَعطَاني، ثُمَّ سَأَلتُهُ فَأَعطَاني، ثُمَّ سَأَلتُهُ فَأَعطَاني، ثُمَّ قَالَ: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلوَةٌ، فَمَن أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَن أَخَذَهُ بِإِشرَافِ نَفسٍ لم يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلا يَشبَعُ، وَاليَدُ العُليَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى).
فمتاع الدنيا بالنسبة للبشر كالزرع بالنسبة للحيوان لابد له من الاعتدال فيه فيأخذ بحظه منه لكن لا يكون شرها في أخذه كي لا يهلك.
فالاستغراق في شهوات الدنيا، ورغبات النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في اللذائذ المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة الآنية؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض، وهو عبادة الله وتوحيده.