كان ﷺ سيد الزاهدين في الدنيا، فقد عرض عليه أهل مكة المال والملك والجاه من أجل أن يتخلى عن دعوته، فرفض ذلك كله، وفضل أن يبقى على شظف العيش مع الاستمرار في دعوته حتى النهاية.
والناظر في سيرته ﷺ، والمتأمل في تاريخ دعوته، يعلم علم اليقين أنه ﷺ لم يكن يسعى من وراء كل ما قام به إلى نيل دنيا أو متاع زائل، مع أنه لو أراد لعاش عيش الملوك، في القصور والبيوت الفارهة، كملوك ذلك الزمان.
وكانت بيوته ﷺ كانت عبارة عن غرف بسيطة لا تكاد تتسع له ولزوجاته، وكان يمر عليه الشهر والشهران لا توقد نارٌ في بيته، ولم يكن له من الطعام إلا الأسودان - التمر والماء-، فعن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة: (ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله ﷺ نارٌ، فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء) متفق عليه.
ورحل من الدنيا ولم يكن له فيها إلا أقل القليل، ففي الصحيح عن عمرو بن الحارث قال: (ما ترك رسول الله ﷺ عند موته درهماً، ولا ديناراً، ولا عبداً، ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة) رواه البخاري، وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي) متفق عليه.
و كان يصبر على الأذى فيما يتعلق بحق نفسه، ويعفو عمن آذاه وظلمه ولا ينتصف لنفسه كما فعل مع أهل الطائف حين رموه بالحجارة حتى ادموا قدميه ومع اهل مكة حين عفا عنهم وقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، كما جاء مفصلاً في السيرة النبوية الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام.
فقد علم ﷺ المعنى الكامل لقوله تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131]
فلم يكن زهد النبي ﷺ عن عدم قدرة على الحصول على ملذات الدنيا ونعيمها، ولكن أتته الدنيا فردها.
فقد فتح الله تعالى له البلاد، وجعل له خمس الغنائم حقاً له، وكان له نصف مزارع خيبر، ومع ذلك.. كان يتصدق بكل ما يأتيه من الأموال، ويبقى ينام على الأرض، ولما تكلم بعض الناس على تقسيم الغنائم قال النبي ﷺ: (إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ) رواه أبو داود وصححه الألباني.
أي أن الخمس الذي كان حقاً له من الغنائم لم يكن النبي ﷺ يأخذه لنفسه، بل كان يتصدق به على المسلمين.
وكان ﷺ يدعو فيقول: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) رواه مسلم، فيسأل الله تعالى أن يرزقه حد الكفاية، ولم يكن ﷺ يطلب أكثر من ذلك ولهذا كان يدخر لأهله قوت سنة حين يوسع الله عليه، ويتصدق بما زاد.