شتان بين من يحيا للدنيا ومن يحيا للآخرة
فارق شاسع ومهول بين من يحيا من أجل الدنيا وبين من يحيا من أجل الآخرة فإن من يحيا من أجل الدنيا يعيش حياة مزيفة بل هي حياة على سبيل المجاز.. حياة يحاصرها النكد والهم والغم في الدنيا وجحيم مستعر في الآخرة أما من يحيا لأجل الآخرة فهو الذي يعيش الحياة الحقيقة الصادقة (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]
الإنسان ينتمي لمن يعيش لأجله فمن يحيا لأجل الدنيا يصبح من أبنائها ومن يحيا لأجل الآخرة يصير من أبنائها فعن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أيها الناس! إن الدنيا عرَض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر يحق بها الحق ويبطل الباطل. أيها الناس! كونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا فإن كل أم يتبعها ولدها”.رواه الطبراني
قال علي بن ابي طالب" ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عملٌ ولا حسابٌ وغدًا حسابٌ ولا عمل" فالعاقل الذي يتأمل الحياة لماذا يقبل أن يكون من أبناء الدنيا المدبرة ويرفض العيشة الهنية الراضية (أَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة:6- 9]
(ومعنى فأمه هاوية يعني جهنم. وسماها أما، لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، قاله ابن زيد. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فالأرض معقلنا وكانت أمنا.: فيها مقابرنا وفيها نولد
وسميت النار هاوية ; لأنه يهوى فيها مع بعد قعرها. ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار. وقال قتادة: معنى فأمه هاوية فمصيره إلى النار) تفسير القرطبي فإلى أي أم تريد أن تنتمي؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي التفكير فيه.
إن الدنيا حياة قصيرة اللذة يشوبها الألم.فلم نجعلها خيارنا الأول وبعد أن تنتهي بلذتها المؤلمة ينتظرنا حساب طويل ومصير معتم عن عبد الله بن مسعود قال: (خط النبي صلي الله عليه وآله وسلم خطًا مربعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال هذا الإنسان وهذا أجله محيطٌ به أو قد أحاط به وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخُطُط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا).رواه البخاري ويكفي الموت واعظا وباعثا على التأمل وإلا فسنوات العمر ستمر سريعا وسنوات البرزخ ستمر كأنها يوم أو بعض يوم ويأتي يوم الحساب ويتلاقى فيه أبناء الدنيا وأبناء الآخرة (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [ آل عمران:185]
مجرد زحزحة صغيرة هي الفارق بين الفوز والخسران.
من أراد أن يحيا للدنيا لا يريد أن يسمع أو يعقل فقط يتمنى الأمنيات الزائفة ويصدقها:(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الحجر:3].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: ( ... وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا ، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا) (رواه الترمذي وصححه الألباني)
قال المباركفوري في شرحه للحديث " (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا) أي: لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا أو حزننا، بل اجعل أكبر قصدنا أو حزننا مصروفاً في عمل الآخرة، وفيه أن قليلاً من الهم فيما لا بد منه في أمر المعاش مرخص فيه، بل مستحب، بل واجب. (ولا مبلغ علمنا) أي: غاية علمنا، أي: لا تجعلنا حيث لا نعلم ولا نتفكر إلا في أمور الدنيا، بل اجعلنا متفكرين في أحوال الآخرة، متفحصين من العلوم التي تتعلق بالله تعالى وبالدار الآخرة، والمبلغ الغاية التي يبلغه الماشي والمحاسب فيقف عنده.