اختلف العلماء -رحمهم الله- في اشتراط النية لأعمال القلوب على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن أعمال القلوب لا تحتاج إلى نية؛ لأن النية إنما شرعت لتمييز العبادات على العادات، وتمييز رتب العبادات، وأعمال القلوب لا تكون عادات ولا تلتبس بغيرها.
القول الثاني: أن النية واجبة في أعمال القلوب لدخولها في عموم الأدلة، ولأن فيها المشروع
والممنوع والمباح، ولا يفرق بينها إلا بالنية.
القول الثالث: النية أمر ملازم لأعمال القلوب فلا يحتاج العبد إلى القيام بها؛ لأنه لا يمكن أن تقع إلا منوية، وإذا فقدت النية فقدت حقيقتها ورما كان هذا الأقرب، فكل عمل قلبي هو صافي النية مخلص لله.
فإذا كان الأصل أن أعمال القلوب لله لا يدخلها الرياء ولا النفاق ولا الشرك، بل ولا يتخيل ذلك، فلا يتخيل محبة أو خوف أو رجاء لله وفيه عدم اخلاص!، ولا يتخيل صبر ولا خشوع ولا حياء من الله بدون اخلاص لله!، فلماذا إذن الحديث عن الإخلاص في أعمال القلوب؟!
أعمال القلوب لا تقع إلا خالصة لله، ولا يطلع أحد عليها إلا الله، لكن الشيطان لا يزال بالعبد حتى يظهر المخفي ويظهر الخبيئة بينه وبين الله، فلا يزال الشيطان بالعبد حتى يتحدث أو ينقل ذلك من أعمال القلوب إلى أعمال الجوارح الظاهرة ليرائي به!
فربما بكى العبد لله وهو يقرأ القرآن أمام الناس فأظهر محبته أو خوفه أو رجاءه لله بينما هو ليس كذلك حين يكون وحده، فأما إن بكى في الحالين فهو لم يبكي ليرائي أو يسمع، وربما تحدث عن نفسه وما في قلبه مما لا يطلع عليه إلا الله، والمسألة هنا دقيقة تحتاج لبسط وتوضيح وإزالة بعض الإشكالات حولها:
-
أولاً: في المسألة أصلين شرعيين:
الأصل الأول: أن الأصل هو إخفاء الأعمال غير المفروضة وعدم ذكرها؛ قال تعالى)إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (البقرة:271، وقال تعالى)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا(الإنسان:9، وقال بعض الحكماء (إخفاء العمل نجاة، وإخفاء العلم هَلَكَةٌ).
والأصل الثاني: أن الأصل في أعمال الفرائض إظهارها؛ تبرئةً للذمة، وإظهارًا للشرائع، قال أبو جعفر: (قد أجمع الجميع على أنَّ الفضل في إعلان الفرائض وإظهارها -سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنَّها واجبة- فحكمها: أنَّ الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض وغيرها).
ويستثنى من هذين الأصليين: مَنْ جمع بين الأمرين التاليين:
1 - مَنْ يُقتدى به: قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وفي الحديث استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يُستحب إظهاره مِمَّنْ يُقتدى به على إرادته الإقتداء به، ويُقدَّر ذلك بقدر الحاجة). اهـ.
2 - ومَنْ أَمِنَ على نفسه خَطَرَاتِ الشيطان: قال ابن جرير: (فيه أنَّه لا بأس في إظهار العمل للناس، لِمَنْ أَمِنَ على نفسه خَطَرَاتِ الشيطان والرِّياءِ والإعجاب). اهـ .
وجمعها ابن عبد السلام فقال: (لكن يستثنى من يُظهره ليُقتدى به، أو ليُنتفع به ككتابة العلم، فمن كان إمامًا يُستنُّ بعلمه، عالمًا بما لله عليه، قاهرًا لشيطانه؛ استوى ما ظَهَرَ من علمه وما خَفِيَ؛ لصحةِ قصده، والأفضلُ في حقِّ غيره: الإخفاءُ مُطلقًا)اهـ
-
ثانياً: الفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياءً
- فلا يمنعن أحد الخوف من الرياء على ترك عمل صالح، بل يعمل العمل الصالح ويجاهد نفسه في الإخلاص والله سيعسنه ويوفقه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى، أو قيام ليل، أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس، إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سراً لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء، ومفسدات الإخلاص؛ ولهذا قال الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك. وفعله في مكانه الذي تكون فيه معيشته التي يستعين بها على عبادة الله خير له من أن يفعله حيث تتعطل معيشته، ويشتغل قلبه بسبب ذلك فإن الصلاة كلما كانت أجمع للقلب وأبعد من الوسواس كانت أكمل. ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء، فنهيه مردود عليه) الفتاوى 23:174
-
ثالثاُ: المجاهدة للنفس ثم المجاهدة:
- فإذا روعي ما ذكر في أولاً وثانياً، فليحرص المسلم على إخفاء أعماله كلها وبالذات الأعمال القلبية فلا يحدث عنها ولا يدعيها، فعمل قلبه من أفضل القربات ومن فضله أنه بين العبد وبين ربه لا يعلم به أحد من البشر. ولهم في هذا قصص مثيرة تقتدى، فمن ذلك: قال الأعمش: كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقـرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف، وقال: لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة، وكان أيوب السختياني في مجلس فجاءته عَبْرَة، فجعل يتمخّط ويقول: ما أشدّ الزكام، وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً، فأؤجر عليه ولا يحمدوني، وعن محمد بن واسع قال: "لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة وقد بلَّ ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي جنبه".، وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة، قال سفيان الثوري: "بلغني أن العبد يعمل العمل سرًّا، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه، فيُكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحبَّ أن يُحمد عليه، فيُنسخ من العلانية فيثبت في الرياء"، وأعمال القلوب طبيعتها النية الصافية والإخلاص فجاهد نفسك أن لا تتحدث عنها ولتبقها عملاً قلبياً خالصاً لله.