كما للبدن وللجوارح عمل فللقلب عمل أيضاً، بل " عمل القلب هو روح العبودية ولبها ، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح " ]ابن القيم[
ومفهوم أعمال القلوب يرتبط بتمام الصدق مع الله وإخلاص العبادة والعمل لوجهه، وإفراغ القلب عن الانشغال بأي شبهة أو شهوة أو عارض دنيوي يحجب الإخلاص مع الله، مصداقًا لقول الله: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }[الشعراء: 88:89]، ومن هنا تبدأ أعمال القلوب من الإخلاص لله، مرورا بأحوال وأعمال منها: المحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والصبر، واليقين، والخشوع، وما إلى ذلك من أحوال المؤمنين.
وأعمال القلوب هي من أصول الإيمان, وهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين " ]ابن تيمية- الفتاوى:10/5[، فأعمال القلوب هي الأصل , وأعمال الجوارح تبع ومكملة , وإن النية بمنزلة الروح , والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء , الذي إذا فارق الروح فمواتٌ , فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح .]ابن القيم- بدائع الفوائد:3/224[
يقول رسول الله : « ألا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ »]رواه البخاري ومسلم [، ولذا كان عمَل القلب أعظَمَ خطرًا من عمَل الجوارح، وأشدَّ أمرًا؛ فمَن أتى بعمَل الجوارح غافلًا عن عمَل القلب كان ضالًّا أو مقصِّرًا بحسب نوع ترْكه لعمل القلب، قال ابن القيم: "إنَّ لله على العبد عبوديتَين؛ عبوديةً باطِنة وعبوديَّة ظاهرة، فله على قلبه عبوديَّة، وعلى لسانه وجوارحِه عبودية؛ فقيامُه بصورة العبوديَّة الظَّاهرة مع تعرِّيه عن حقيقة العبوديَّة الباطِنة ممَّا لا يقرِّبه إلى ربِّه ولا يوجِب له الثَّواب وقبول عمله؛ فإنَّ المقصود امتِحانُ القلوب وابتلاء السَّرائر، فعمل القلب هو رُوح العبوديَّة ولبُّها، فإذا خَلا عمَل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا رُوح"]ابن القيم- بدائع الفوائد[
وفي مقابل كل عمل للقلب، هناك مرض ينشأ من غياب هذا العمل؛ فالإخلاص ضده الرياء، واليقين ضده الشك، والمحبة ضدها البغض… وهكذا، وإذا غفلنا عن إصلاح قلوبنا تراكمت عليها الذنوب فأهلكتها قالe « تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ » ]رواه مسلم[
واشار النبي لقلبه قائلا لأحد صحابته: «التقوى ها هنا»، كما قال: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» [مسلم] فالأعمال الصالحة لا عبرة بها إلا إن نبعت من القلب الذي يعظم الله ويخشاه [شرح النووي على مسلم].
و أصل الإسلام في القلب هو الخضوع لله جل وعلا ، يقول ابن تيمية : (دين الإسلام الذي ارتضاه الله، وبعث به رسله، هو الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون سواه )]ابن تيمية-مجموع الفتاوى[ ولهذا كان شيخ الإسلام الجليل ابن تيمية يقول أن المحبوس هو من حبسه قلبه عن ربه!
ويقول الله: {وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَٰجِعُونَ}[ المؤمنون :60] هذا حال أهل الإيمان، فالأعمال الظاهرة يعظم قدرها، ويصغر قدرها بما في القلوب، وما في القلوب يتفاضل؛ لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله. ] ابن تيمية:4/461 [
ودرجات العباد على ثلاثة منازل ما بين ظالم لنفسه بالمعصية، ومقتصد بفعل الواجبات وترك المحرمات، وسابق للخيرات وهو المتقرب لله المتورع عما يحول قلبه عنه، يقول الله عز وجل : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}[فاطر:32] .
يقول ابن القيم رحمه الله: القلوب آنية الله في أرضه ، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها .
وهناك الكثير من السبل لإحياء تلك القلوب، وعلى رأسها ذكر الله وتلاوة كتابه، روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم « إِن هَذِه الْقُلُوب تصدأ كَمَا يصدأ الْحَدِيد قَالُوا فَمَا جلاؤها يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : تِلَاوَة الْقُرْآن » وكان أكثر دعائه: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» . (رواه مسلم)، كما تعد مجالسة أهل العلم والصلاح من سبل تزكية القلوب، وأشرف العلم هو العلم بأسماء الله وصفاته وهو الذي يولد هيبة الله في النفس ومحبته الخالصة دون سواه من المخلوقات.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] هذه ثمرة القلب الصالح المخلص لربه، الطمأنينة والبشرى في الدنيا والآخرة، يقول الله: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }[الأحقاف: 13]
يقول الله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ وُدًّا } [مريم: ٩٦ ] يجعل لهم وداً: أي: محبة ووداداً في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب ودٌ تيسر لهم كثيرٌ من أمورهم، وحصل لهم من الخيرات، والدعوات، والإرشاد، والقبول.] السعدي:501 [
وسنعرض في مقالات تالية، نماذج لأهم أعمال القلوب ومنازل الإيمان، من حيث مفهومها وحال رسول الله والصالحين معها، وأقوالهم في حقيقتها، وعلاقات أعمال القلوب، ومفسدات تلك الأعمال، والأمور الواجب فعلها لتزكيتها في النفس، وأخيرا ثمراتها في الدنيا والآخرة، طلبا لقلب سليم يرضاه الله سبحانه خالق العباد؛ فهو وحده {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }[آل عمران: 119]..