ـ معاصي خاصة
ومن صور المعاصي الخفية التي قد لا يتم الالتفات لها بصورة كافية تلك المعاصي القلبية الغائرة في أعماق
النفس البشرية " وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ " [الأنعام: 120]
فمنها معاصي تخرج من الملة كالنفاق وكراهة ما أنزل الله تعالى ومنها معاصي دون ذلك كالعجب والخيلاء والقنوط من رحمة الله تعالى والفرح بالضرر يلحق بالمؤمنين والشماتة فيهم وحب الفاحشة والحقد والحسد ونحو ذلك.
يقول ابن القيم في مداج السالكين (وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن.. وهذه الأمور قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها) لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لو لم تذنبوا، لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك، العجب» رواه البيهقي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء» رواه أحمد.
ومن المعاصي القلبية حب الشهوات يقول ابن القيم: (ومن الصغائر أيضًا شهوة المحرمات وتمنيها، وتتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر، بحسب تفاوت درجات المشتهي، فشهوة الكفر والشرك كفر، وشهوة البدعة فسق، وشهوة الكبائر: معصية فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب، وإن تركها عجزًا بعد بذله مقدوره في تحصيلها، استحق عقوبة الفاعل...).
ـ معاصي اللسان
وهي من المعاصي الخاصة التي تكب الناس على وجوههم في النار عنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدْنِي مِنْ النَّارِ، قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾ [السجدة: 16]
حَتَّى بَلَغَ ﴿ يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ فقُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْك هَذَا. قُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!".رواه الترمذي فالغيبة والنميمة وقذف المحصنات والاستمتاع بالخوض في الأعراض كلها معاصي مهلكة لا يلتفت لها كثير من النار عند السلف
حال السلف في التفكر بلقاء الله
كان السلف يهابون لقاء الله يوم الحساب يهابون سوء المصير لا يتساهلون مع أنفسهم في الحساب ومن ذلك أن تميم الداري قرأ ليلة سورة الجاثية، فلما أتى على هذه الآية (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) [ سورة الجاثية: 21 ]
جعل يرددها ويبكي حتى أصبح.
كانوا يتذكرون في كل موقف الآخرة وأهوالها قال مالك بن ضيغم: حدثني الحكم بن نوح قال:بكى أبوك -ضيغم بن مالك- ليلة من أول الليل إلى آخره، لم يسجد فيها سجدة ولم يركع فيها ركعة، ونحن معه في البحر،
فلما أصبحنا قلنا: يا مالك لقد طالت ليلتك لا مصلياً ولا داعياً،قال: فبكى ثم قال: لو يعلم الخلائق ما يستقبلون غداً ما لذوا بعيش أبداً،!
والله إني لما رأيت الليل وهوله وشدة سواده، ذكرت به الموقف وشدة الأمر هناك، وكل امرئ يومئذ تهمه نفسه: (لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً)..كانت النار حاضرة وبقوة وإلحاح في تفكيرهم وخواطرهم كأن النار لم تخلق إلا لهم
بكى الحسن فقيل: ما يبكيك؟ قال: «أخاف أن يطرحني غدا في النّار ولا يبالي»
قال يزيد بن حوشب -رحمه الله «ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأنّ النّار لم تخلق إلّا لهما» حتى في لحظات الدعة والراحة كانت النار حاضرة في ذهنهم
أوى أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل –رحمه الله- إلى فراشه فقال:" يا ليت أمي لم تلدني. فقالت له امرأته: أبا ميسرة، أليس قد أحسن الله إليك، هداك للإسلام، وفعل بك كذا؟ قال: بلى، ولكن الله أخبرنا أنا واردون على النار، ولم يبين لنا أنا صادرون عنها "
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من ذا يترضى عنك ربك الموت؟ ثم يقول: أيها الناس ألا تبكون و تنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت طالبه و القبر بيته و التراب فراشه و الدود أنيسه و هو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشيا عليه.
كان الخوف من النار حاجزا يمنع عنهم القدرة على الاسترسال في لذات الدنيا،
قال إبراهيم التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت وذكر الموقف بين يدي الله تعالى.
حتى في النوم ينشغل العقل الباطن بالتفكير في المصير،
فقد قَالَ مطرف بن عبد الله: رَأَيْت فِي مَا يرى النَّائِم كَأَن قَائِلا يَقُول فِي وسط جَامع الْبَصْرَة قطع ذكر الْمَوْت قُلُوب الْخَائِفِينَ فوَاللَّه مَا تراهم إِلَّا والهين محزونين..انهم يتذكرون ذلك بطريقة واعية مختارة
يقول عمر بن عبد الْعَزِيز:لَو فَارق ذكر الْمَوْت قلبِي ساعة لفسد إنه التفكير المتواصل في أمر الآخرة يقول حَامِد اللفاف:
وَيْح ابْن أَدَم إِن أَمَامه ثَلَاثَة أَشْيَاء موت كريه المذاق ونار أليمة الْعَذَاب وجنة عَظِيمَة الثَّوَاب
ويقول َ ابْن السماك:إِن الْمَوْتَى لم يبكوا من الْمَوْت وَلَكنهُمْ يَبْكُونَ من حسرة الْفَوْت فَاتَتْهُمْ وَالله دَار لم يتزودوا مِنْهَا ودخلوا دَارا لم يتزودوا لَهَا فأية سَاعَة مرت على من مضى وأية سَاعَة بقيت علينا وَالله إِن المتفكر فِي هَذَا لجدير أَن يتْرك الأوطان ويهجر الخلان ويدع مَا عز وَمَا هان.
ولعل في هذا الحوار ما يلخص حضور قضية النار في عقلية السلف
قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر –رحمه الله-: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينيك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به،
قال: يا أخي، إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريا أن لا تجف لي عين