الموت هو باب العبور إلى الآخرة وهو آخر نقطة في الحياة الدنيا وأول نقطة في حياة البرزخ وهو كما وصفه النبي ﷺ (هاذم اللذات) رواه الترمذي والنسائي.
فالموت يهذم (أي يقطع) جميع لذات الدنيا وينتزعه الناس انتزاعًا من كل ما يملكون ليذهب بهم إلى دار لا يملكون فيها شيئًا إلا ما اكتسبوه بالعمل الصالح وطاعة الله.
فالموت يقطع الإنسان عن الدنيا وهو يأتي بغتة ولا أحد يعرف أجله، لذلك قال الإمام الحسن البصري عنه: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا، فأنّى يفرح من ينتظر قدوم ملك الموت في أي لحظة ليقبض روحه وينتزعها من جسده انتزاعًا.
والموت لا مفر منه ولا مهرب ولم ينكره أحد من قبل حتى الملحدون ومنكرو البعث والنشور لم يستطيعوا إنكار الموت ولا التكذيب بوجوده لأنه أوضح وأظهر من أن يُنكر.
والموت هو صفحة النهاية في كتاب الحياة فهو يضع حدًا فاصلًا بين الدنيا والآخرة قبله عمل بلا حساب وبعده حساب وجزاء بلا عمل، قبله يستطيع المرء أن يتوب وبعده يُحاسب على كل ما قدمت يداه ولا يملك تغيير مكانه ولا مصيره.
وأخطر ما في الموت أنه يأتي فجأة فلا يستطيع أحد أن يستعد لقدومه فملك الموت لا يستأذن كي تتجهز لدخوله عليك وقبض روحك على حال معينة أو في وقت معين أو مكان معين، وهذا ما أرعب الصالحين في كل زمان ومكان.
لذا فإن الصالحين يتجهّزون للقاء ملك الموت كل يوم لاحتمال أن يكون هذا اليوم هو آخر عهدهم بالدنيا، فلا يبيت أحد منهم وفي رقبته مظلمة لأحد ولا مؤجلًا لتوبة ولا مؤخرًا لطاعة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وكان بعض الصالحين يُوصف من شدة جدّه واجتهاده بأنه لو قيل له أن القيامة غدًا ما استطاع أن يزيد في عمله الصالح شيئا لأنه بالفعل يبذل أقصى ما في طاقته (علو الهمة).
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لأبي حازم: أوصِني، فقال له أبو حازم: اضَّجِع ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظُر إلى ما تحبُّ أنْ يكون فيك تلك الساعة فخُذْ به الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدَعْه الآن، فلعلَّ تلك الساعة قريبة". تاريخ دمشق
فالموت يتربص بكل منَّا ويدرك مطلوبه لا محالة إن أتى موعده المكتوب، لا يوقفه حذر ولا قوة ولا سلطان، قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء:78]
ومعظم الناس يعيشون حياتهم الناس في أمن من الموت وشدته، كأنهم ضمنوا أنهم مستثنون من الموت أو كأنه لن يأتيهم بغتة، كالأنعام التي تساق للمذبح وهي تأكل وتستلذ بالطعام غافلة عما ينتظرها.
قال خُلَيد القصَري: "كلُّنا قد أيقن بالموت، وما نرى له مستعدًّا، وكلُّنا قد أيقن بالجنة، وما نرى لها عاملاً، وكلنا قد أيقن بالنار، وما نرى لها خائفًا! فعَلامَ تعرِّجون؟ وما عسيتم تنتظرون؟ الموت، فهو أوَّل واردٍ عليكم من الله بخير أو بشرٍّ! يا إخوتاه، سِيروا إلى ربكم سيرًا جميلاً" صفة الصفوة
وكثير من القوم اليوم قد انشغلوا بالدنيا وهمومها، ونسوا همهم الأكبر ومصيبتهم الأعظم، مع أنهم لو استحضروا الموت في قلوبهم لهان عليهم متاع الدنيا، وهانت عليهم همومها وسائر أمورها.
فالعاقل من استعد لذلك اليوم العصيب ونهى النفس عن الهوى، قبل أن يأتيه ملك الموت ليقبض روحه وهو على حال لا يرضاها.
عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -ﷺ- قَالَ: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا, وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) أخرجه الترمذي.
يقول ابن الجوزي رحمه الله في التبصرة: "أيُّها الناس، تقوَّوْا بهذه النعم التي أصبَحتُم فيها، على الهرب من النار الموقدة، التي تطَّلع على الأفئدة، فإنَّكم في دارٍ الثواءُ فيها قليل، وأنتم فيها مؤجلون، وخلائف من بعد القرون، الذين استقبلوا من الدنيا زُخرفها وزَهرتها.
قال الحسن: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت (تفسير الخازن).
فالكل يوقن بحتمية الموت ولكن أغلب الناس إلا ما رحم ربي يتعاملون معه كمن يشك في وجوده ويتعاملون مع الحياة وكأنهم مخلدون فيها إلى أبد الآبدين!
ورحم الله من قال:
يا غافـلاً عن العمل *** وغرَه طـولُ الأمـل
الموتُ يأتـي بغتـةً *** والقبرُ صندوق العمل