(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) [يونس: 24]
يبين الله الحجج والأدلة للناس ليعتبروا بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعًا مع اغترارهم بها، فقد ضرب تبارك وتعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض عندما تأتيه صاعقة، أو ريح باردة، فأيبست أوراقه، وأتلفت ثماره، فتبدلت يابسة بعد تلك الخضرة والنضارة، كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن.
ففي هذا المثل دعوة لأخذ العبرة من مشهد من مشاهد الطبيعة، فالنباتات والحدائق الغناء التي تزدهر بماء المطر وتتزين بحلل الجمال، ما إن تضربها صاعقة أو ريح شديدة حتى ينتهي هذا المشهد المبهج في لحظات معدودات ويستحيل خرابًا ودمارًا.
وهكذا الدنيا وأحوالها فالمرء قد يكون في عنفوان شبابه وقوته وغناه، فيأتيه الموت بغتة، والبلاد قد تكون في أرغد عيشها وأفضل أزمانها، فيصيبها زلزال أو نازلة، والدنيا نفسها تقوم عليها الساعة فجأة والناس في غمرة أشغالهم (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) [الزمر:68]
ففي تقلب أحوال الطبيعة عبرة وعظة وتبيان لحقيقة الدنيا المتقلبة، فكيف للعاقل أن يركن لما ليس له قرار وليس له ثبوت؟!
ولهذا جاء في الحديث (يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيرا قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول: لا) رواه مسلم.
فغمسة واحدة في الجنة تنسى وتنسخ كل ما كان قبلها من هم وغم وضيق وحزن وشدة وبلاء، وغمسة واحدة في النار تذهب كل ما قبلها من نعيم دنيوي ومتاع فان وسلطان زائل وشهرة وهمية.
والله سبحانه وتعالى يشبه حال الدنيا ككل بحال الطبيعة وتحولاتها، فالعاقل من يتفكر حوله ويأخذ العبرة والعظة من مشاهد الطبيعة حوله، وقد ورد أن رجلاً من الصالحين من أهل الطائف زرع زرعًا فلما بلغ أشده أصابته آفة فاحترق، فدخل عليه أصحابه لتسليته فبكى، وقال: وما عليه أبكي، ولكنى سمعت الله تعالى يقول: [آل عمران: 117]
فأخاف أن أكون من أهل هذه الصفة فذلك الذى أبكاني (ﺗﺴﻠﻴﺔ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐ).
ففي مشاهد الكون عظة وعبرة لمن يعتبر، ودلالة على حال الدنيا التي يعقب فيها الليل النهار والعكس، وتتبدل فيها فصول السنة، فتغير الأرض كساءها من فصل لآخر، وتتلبد السماء بالغيوم ثم تشرق الشمس وتستبد بمشهد السماء كأن لم يكن قبلها سحاب ولا غيم.
فالدنيا لا تستقر على حال واحد لطالبها ولا للهارب منها، كالنبات يكون اليوم أخضر وغدًا يابس، وهكذا، ومن عرف حقيقة ذلك فحري به ألا يربط كل آماله بما يتيقن من أنه لن يستمر معه، ولن يظل في يده.
فنعيم الدنيا مؤقت سريع الزوال والتحول، وما تفرح به اليوم قد يُحزنك غدًا؛ هو نفسه، لكن بعد أن تجري عليه سنن الحياة فالجسد يشيخ، والجمال الشكليّ يذبل، والمتع تفقد لذتها إن تكررت كثيرًا وتصبح مملة، لا تبعث على الانبهار والفرحة التي كانت تُحدثها في البداية، والمنصب يجلب المتاعب والمشاكل، وهكذا، فطبيعة الدنيا التبدل الدائم والتحول المستمر.
قال : (إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا، وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ-أي وضع فيه الملح والتوابل-فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ) رواه أحمد، فبعد هضم الطعام يجتمع على شكل فضلات ثم يخرج على شكل آخر تمامًا يشمئز منه كل إنسان، بعد أن كان مُعدًا في صورة شهية وجذابة تُغري الآكلين.
فمن رأى تهافت الناس على الدنيا والفرح بها والجري وراء حطامها يأخذه العجب.. فهل هذا منتهى الآمال ومبتغى الآجال؟! كأنهم ما خلقوا إلا لتحصيل المادة وجمعها واللهث ورائها، رغم أنهم عما قليل سيُنتزعون منها ويفارقونها، فكيف يُفرح بهذا؟ وأي حطام زائل يستحق إفناء الحياة في سبيل تحصيله؟!
قال الحسن: أدركت أقوامًا لا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتهم(الزهد)، وقال الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل (الزهد).