قال عليُّ بن أبي طالب -: "إذا أدركتِ الدنيا الهاربَ منها جرحَتْه، وإذا أدركتِ الطالب لها قتلَتْه"، فالدنيا كالظل تمشي وراءك إن أدرت لها ظهرك وتجري أمامك إن وليّت لها وجهك (الملل والنحل).
قال ﷺ: (إِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّهُ لَن تَمُوتَ نَفسٌ حَتَّى تَستَوفيَ رِزقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ، وَلا يَحمِلَنَّكُمُ استِبطَاءُ الرِّزقِ أَن تَطلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ، فَإِنَّهُ لا يُدرَكُ مَا عِندَ اللهِ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ) أَخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمَانِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ ﷺ: "إِنَّ الرِّزقَ لَيَطلُبُ العَبدَ كَمَا يَطلُبُهُ أَجَلُهُ" رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَقَالَ الأَلبَانيُّ: صَحِيحٌ لِغَيرِهِ.
فالدنيا لا تستقيم لأحد ولا تشبع طالبها منها، ولا تستحق أن يوليها المرء كل همه ويجعلها منتهى آماله، فهي أحقر وأقل من أن تكون همة الإنسان فيها، وعلى الإنسان أن يتفكر في حقيقتها باستمرار ويعتبر من سير السابقين كي لا يغتر بها، ويستحضر هذه الدروس في حياته دومًا.
ومن دروس الحياة الدنيا أنها:
لقد خَلَق الله الدنيا على طبيعة اختلطتْ فيها اللذائذ بالآلام، والمحابُّ بالمكارِه، فليس فيها لذَّة لا يَشوبها ألَم، والنعمة فيها لا تدوم لأحد أيًا كان.
قال الله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[ آل عمران: 140 - 142]
، فلا يركنن عاقل إلى دنيا متحولة، ولا يظنن ظان أنه قد أصبح عصيًا على تقلبات الدهر.
جاء في الحديث الصحيح - كما عند البخاري - قال رسول الله -: (إن الله ليُمْلِي للظالِم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه)، قال: ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد) [هود: 102].
قصيرة وسريعة الزوال:
الدنيا سريعة الفَناء، قريبة الانقضاء، مهما طالت حياة أي إنسان فهي قصيرة، وستنقضي الدنيا كلها وتأتي بعدها الآخرة التي بسبب طولها يحسب الناس أنهم لم يقضوا في الدنيا إلا ساعة من نهار.
قال الإمام ابن القَيِّم:
"مثل أهل الدنيا في غَفْلتهم، مثل قومٍ رَكِبوا سفينة، فانتهتْ بهم إلى جزيرة، فأمَرَهم الملاَّح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذَّرهم الإبطاءَ، وخوَّفهم مرورَ السفينة، فتفرَّقوا في نواحي الجزيرة، فقَضَى بعضُهم حاجته، وبَادَرَ إلى السفينة،.. وتولج بعضُهم في تلك الغياض، ونَسِي السفينة، وأبعد في نزهته؛ حتى إنَّ الملاَّح نادَى الناسَ عند دَفْع السفينة، فلم يَبلغْه صوتُه؛ لاشتغاله بملاهيه.. فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم مَوردَهم وعاقبةَ أمرهم!" (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين).
منذ اللحظة التي طَرَد الله فيها إبليس من رحمته، ولَعَنه بسب تكبُّره ورَفْضه السجودَ لآدمَ - عليه السلام - رَفَع الشيطان رايةَ التحدِّي، وأعلن الحرب قائلاً: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 82]
وجعل هدفه الوحيد إضلال الخلق
والحياة الدنيا - لكى يكون فيها اختبار - لابد أن يكون فيها إغواء.
ومعظم الناس يقعون أسرى لهذا الإغواء والإغراء فيتعلقون بالدنيا وشهواتها وبما فيها من المتاع، وتفضيلها على الآخرة كما قال سبحانه وتعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) [القيامة: 20].
وهذا الحب يغمر القلب فلا يوجد فيه مكان للآخرة أو يقل فيه مكان الآخرة، فيقدم الإنسان حينئذٍ الدنيا على الآخرة بحيث تصير أكبر الهم، وأعظم ما يبلغه.
قال - تعالى -: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2 – 3]
قال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:
"إذًا فالاختبار ليس عن جَهْله - سبحانه - بعبْده، ولكن حِكْمة ذلك في كَشْف مَن يدَّعي الإيمان لنفسه وتجربته أمام عَينيه، فيسقط الوهم في أنَّه عميقُ الإيمان، أمَّا الكاذبون فيختبرهم - سبحانه - ليعيدهم إلى الإيمان تائبين مُتذكِّرين نادمين، فإنْ لَم يتوبوا، ولَم يتذكَّروا، عرَّاهم أمام الناس.
وخَلَّص صفوفَ المؤمنين منهم، فالابتلاء يزيد رجال الإيمان نضوجًا وصلابة، والدُّعاةَ الصادقين عُمقًا وثباتًا، فهو ليس شرًّا بالمؤمنين أبدًا؛ لأنه خيرٌ يسوقه الله لعباده؛ ليعودوا إليه بعِزَّة الإيمان، ويعودوا إلى ربِّهم ضارعين، يلجؤون إليه بقلوب مُرتبطة به؛ تَذْكره وتَشْكره، وتَلْهج بذِكْره، قويَّة بالله، ثابتة على دينه؛ لأن الله - جل جلاله - يريد ذلك منهم".