والخوف من الله من العبادات القلبية العظيمة، قال تعالى{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175] وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، والتأكيد على أنه من لوازم الإيمان؛ فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: “سألت النبي ﷺ عن هذه الآية{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [المؤمنون: 60]؛ أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم” (رواه الترمذي)
1-إجلال الله جل وعز وتعظيمه لعلمهم به وبأسمائه وصفاته{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل: 50]
2-الخَوف أن يكون مَصيره إلى ما يَكره، من العذاب الأليم في النار وبِئس المصير.
3-شعوره بالتقصير تِجاه الواجبات التي عليه مع إدراكه لعلم الله واطلاعه عليه وقدرته عليه، وعدم النظر إلى صِغَر المعصية بِقَدر النظر إلى عَظمة من عصى سبحانه.
4-تَدَبُّر كَلام الله سبحانه المَلِيء بالوعيد والتهديد لمن عَصى الله وأَعْرَض عن شَرعِه، وتَرك النُّور الذي أُرسل إِليه.
5-تدبر كلام الله ورسوله والنظر في سيرته ﷺ.
الخوف من الله يستلزم العلم به، والعلم به يستلزم خشيته، وخشيته تستلزم طاعته.6-التفكر في عظمة الله جل وعز؛ فإنه مَن تفكر في ذلك يقع على صفات الله جل جلاله وكبريائه، ومن شهد قلبه عظمة الله تعالى علم شأن تحذيره فخاف الله لا محالة، قال{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وقال جل وعز { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }[الزمر: 67]
7-التفكر في الموت وشدته، وأنه لا مفر منه: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ } [الجمعة: 8] ، فهذا يوجب الخوف من الله، قال ﷺ: “أكثروا ذكر هادم اللذات (الموت)؛ فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيقه عليه” (رواه الطبراني).
8-التفكر فيما بعد الموت، وفي القبر وأهواله، قال ﷺ: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة” (رواه ابن ماجه)، وعن البراء قال: “كنا مع رسول الله ﷺ في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلّ الثرى، ثم قال: يا إخواني لمثل هذا فأعدّوا (رواه ابن ماجه)، وقال جل وعز{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]
9-التفكر في عاقبة محقرات الذنوب التي يحقرها الناس، وقد مثلها النبي ﷺ بقوم نزلوا بطن واد، فجاء هذا بعود وهذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وهناك ارتباط بين الأعواد وإيقاد النار، وبين الذنوب وما تسبب من نضج جلود العصاة{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } [النساء: 56]
10-أن يعلم العبد أنه قد يحال بينه وبين التوبة بموت مفاجئ، وأن الحسرة حينها لا تنفع، قال تعالى{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } [المؤمنون: 99]، وقال{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ } [مريم: 39]
11-التفكر في سوء الخاتمة، قال تعالى{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]
12-أن تجالس أناسًا يكسبونك خشيةً وخوفًا من الله؛ قال جل وعز{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الكهف: 28]
الخوف من الله يتعلق بأمرين:
أ – الخوف من عذابه: الذي توعد به من أشرك معه غيره ومن عصاه وجانب تقواه وطاعته
ب – الخوف من الله: وهو خوف العلماء والعارفين به{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] ، وكلما زادت المعرفة بالله زادت الخشية منه، قال الله جل وعز{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28] ؛ لأنه لما اكتملت معرفتهم بربهم وأسمائه وصفاته آثروا الخوف، ففاض الأثر على القلب ثم ظهر على الجوارح.
أ- في الدنيا:
إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها.أنه من أسباب التمكين في الأرض وزيادة الإيمان والطمأنينة؛ لأنك إذا حصل لك الموعود وثقت أكثر، قال جل وعز{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ١٣ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم:13 - 14]
يحث على العمل الصالح والإخلاص فيه، وعدم طلب المقابل في الدنيا؛ فلا ينقص الأجر في الآخرة، قال تعالى{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا }[الإنسان:9 - 10] وقال{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ٣٦ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } [النور:36 - 37] أي: تضطرب وتتقلب، وهذا هو الذي دفعهم للعمل؛ يريدون النجاة، ويحذرون الهلاك، ويخافون أن يؤتوا كتبهم بشمائلهم.
ب - في الآخرة:
من خاف الله دلّه الخوف على كل خير.1-يكون العبد في ظل العرش يوم القيامة، قال رسول الله ﷺ: “..ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال؛ فقال إني أخاف الله..” (رواه البخاري)؛ وظاهر الحديث أنه يقولها بلسانه ليزجر المرأة عن فعلها، وليذكر نفسه، ويصر على موقفه ولا يتراجع بعد إعلان المبادئ، “..ورجل ذكر الله خاليًا؛ ففاضت عيناه..” (رواه البخاري)؛ الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.
2-أنه من أسباب المغفرة، وشاهد ذلك حديث النبي ﷺ: “أن رجلا كان قبلكم رزقه الله مالًا، فقال لبنيه لما حُضِرَ: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرًا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف؛ ففعلوا فجمعه الله جل وعلا، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته!!” (رواه البخاري)، فعذره الله بجهله، وشفع له خوفه من ربه، وإلا فالذي ينكر البعث كافر.
3-يوصل صاحبه للجنة لأن النبي ﷺ قال: “من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة” (رواه الترمذي).
4-الأمن يوم القيامة قال الله تعالى في الحديث القُدسي: “وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة” (رواه البيهقي).
6-الدخول فيما وصف الله به عباده المؤمنين في مثل قوله تعالى{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } [الأحزاب: 35] ، فكلها ألفاظ شريفة يُسعى لحيازتها، قال تعالى{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ١٦ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة:16 - 17] وقال تعالى{ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر: 9] وقال { وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ٢٧ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } [المعارج:27 - 28]وأثنى الله على أقرب عباده، وهم الأنبياء؛ لخوفهم منه{ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]، بل الملائكة أنفسهم يخافون ربهم، قال تعالى{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[النحل: 50]
7-الرضا من الله تعالى{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة: 8]
إن العارفين بالله على حسن عملهم ورجائهم بالله جل وعز؛ إلا إنهم يخافون منه تعالى ويخشونه أشد ما تكون الخشية؛ ومن أمثلة ذلك:
- بكائه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي حتى يسمع لصدره الشريف صلى الله عليه وسلم أَزِيز كأزيز المِرجَل من البكاء) رواه أحمد وأبو داوود والنسائي.
ـ أبو بكر رضى الله عنه يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني المهالك;، ويقوليا ليتني كنت شجرة تؤكل.
ـ عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: يا ليتني لم أكن شيئًا مذكورًا، يا ليت أمي لم تلدني، ويقول: لو مات جمل ضياعًا على جانب الفرات لخشيت أن يسألني عنه الله يوم القيامة، ويقول: لو نادى منادٍ من السماء: يا أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا واحدًا لخفت أن أكون أنا هو”!!
ـ عثمان بن عفان رضى الله عنه يقول: وددت لو أنني لو مت لم أبعث، وهو الذي كان يقطع الليل تسبيحًا وصلاةً وتلاوةً.
ـ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقرأ قوله تعالى{ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور: 27] في صلاتها فتبكي وتبكي{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]
1- الخشية أخص من الخوف؛ فالخشية لمن كان بالله أعلم { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28]، ، خوف مقرون بمعرفة، قال النبي ﷺ: “أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له” (رواه مسلم)، وعلى قدر العلم والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته وكماله وجلاله والمعرفة به يكون الخوف والخشية.
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]2-ينفع الخوف إذا حثَّ على الاجتهاد والعمل والتوبة مع الندم والإقلاع، فالخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد، ومن معرفة الله الكبير العظيم المتعال، ولا يتصور خوف من الله لا يدعوا للعمل والاجتهاد والتوبة.
من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غيره لم ينفعه أحد3-الخوف من الله واجب من الواجبات وهو من مقتضيات الإيمان، وهو مِن أَجَل مَنازل الطريق وأنفعها للقلب، وهو فرض على كل إنسان، ويمنع منه المعاصي والدنيا والرفقة السيئة والغفلة وتبلّد الإحساس.