الدنيا هي سجن المؤمن وجنة الكافر، فهي سجن بالنسبة لما أعدّ الله للمؤمن في الآخرة من النعيم المقيم، وجنة الكافر بالنسبة لما أمامه من العذاب والجحيم.
وبالتالي فمن الطبيعي أن المسجون يود الخلاص من سجنه لأنه يتوق إلى الحرية والسعة والرفاهية، ويعلم أن كل ذلك ينتظره بالخارج، فكذلك المؤمن في تلك الدنيا يعمل ويكد ولا يعول على نيل السعادة التي يؤملها في دنياه، بل كل نظره متعلق بالآخرة التي يستطيع فيها أن يعيش كما يحب.
فينظر إلى الدنيا على أنها مسخرة له ليستطيع المضي في طريقه واستخدامها في أغراضه، كما قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:13]
فعلاقة المؤمن بالدنيا تتسم بأنها علاقة نفعية بحتة فهو لم يتخذها وطنًا ولا مستقرًا، بل وسيلة عبور لشاطئ الأمان وهو الجنة.
قال الصادق المصدوق ﷺ (أَلَا إن الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها ؛ إلا ذكرَ اللهِ وما والاه، وعالمًا، أو متعلمًا). رواه الترمذي.
أي: أنها مبغوضة عند الله -تبارك وتعالى، فهي ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه يعني: إلا ما قاربه أو قرب إليه من الطاعة ودل عليه، كالعلم والتعلم للعلوم التي توصل إلى المالك المعبود، مثل العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بالطريق الموصل إليه، والعلم بما يصير إليه الإنسان في آخرته.
فالمقصود باللعن هنا هو ما أشغل العبد عن ذكر الله وصرف قلبه عنه كالشهوات والمعاصي ونحو ذلك، وليس المقصود تحريم ما أحل الله، بل هي دعوة للتركيز على ما ينفع، أو بمعنى آخر: ما يصحبك في الآخرة، وهو كل ما يرضي الله من الأفعال والأقوال وكل شيء في الدنيا يقربك إلى مولاك فهو مستثنى من هذه اللعنة.
والعجيب أن كثيرا من طالبي الدنيا لا ينالون مرادهم منها فيخسروا الاثنتين: الدنيا والآخرة، وهي خسارة مضاعفة.
وأهل الدنيا لا ينالون بعملهم إلا الدنيا على أقصى تقدير، وما لهم في الآخرة من نصيب كما قال تعالى:(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى: 20]
وأما أهل الآخرة فإنهم ينالون بعملهم الآخرة قطعً، وقد يعطي الله تعالى بكرمه وفضله لأهل طاعته الدنيا أيضًا، فهو يملك الاثنتين معًا، كما في كتابه العزيز:(مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:52]
وقد لخص الله الأمر بمنتهى البساطة والوضوح فقال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا، انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:17 – 21]
ففي الدنيا درجات ومراتب، ولكنها تتصاغر إذا ما قورنت بمراتب الآخرة ودرجاتها، فالإكرام الحق هو الإكرام الأخروي، ولكن أكثر الناس لا يعقلون.