كانت همة السلف عالية وتطلعهم لتلك السلعة الغالية عظيم يكفي ان نذكر في ذلك الصدد قصة صحابي شاب لم يكمل بعد العشرين من عمره هو ربيعة بن كعب الأسلمي وهو يحكي عن نفسه وتطلعه للجنة فيقول: (كنت اخدم رسول الله وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله العشاء الآخرة فأجلس ببابه حتى إذا دخل بيته أقول لعلها تحدث لرسول الله حاجة... حتى أمل فارجع أو تغلبني عيني فارقد فقال لي - يعني النبي - يوماً لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه سلني يا ربيعة أعطك فقلت أنظر في أمري يا رسول الله ثم أعلمك ذلك ففكرت في نفسي فعرفت إن الدنيا منقطعة زائلة وان لي فيها رزقا سيكفيني ويأتيني قال فقلت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به قال فجئت فقال ما فعلت يا ربيعة قال فقلت نعم يا رسول الله أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار قال فقال من أمرك بهذا يا ربيعة قال فقلت لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في آمري وعرفت إن الدنيا منقطعة وزائلة وان لي فيها رزقا سيأتيني فقلت اسأل رسول الله لآخرتي قال فصمت رسول الله طويلا ثم قال لي إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه أحمد، وفي رواية مسلم (قال كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي سل فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود).شاب صغير فقير من أهل الصفة لا زوجة له ولا بيت ولا دابة لكن طموحه وهمته هي الجنة فرزقه آتيه في الدنيا بل يطارده فيها لكن الجنة هي السلعة الغالية التي لا يضمن الوصول لها فطمح بأعلى درجاتها "مرافقته صلى الله عليه وسلم ".
ومن نماذج همة السلف للجنة ما حدث عندما خطب الصحابي أبو موسى الأشعري في المسلمين قبيل أحد المعارك فقال ك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)، فيقول رجل من المقاتلين يسمعه: أأنت سمعت هذا يا أبا موسى من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم، فيذهب إلى قومه فيقول: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر غمد سيفه، ومشى إلى الأعداء فقاتل حتى استشهد في سبيل الله تماما كما فعل الصحابي عمير بن الحمام الذي قاتل في معركة بدر عندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الجنة تحت ظلال السيوف فقال: بخٍ بخٍ يا رسول الله! قال: وما يحملك على أن تقول بخٍ بخٍ؟ قال: يا رسول الله! لا والله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها)، وكان يأكل تمرات في يده، فقال: لئن عشت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة.
هؤلاء هم السلف الذي كان مصطلح علو الهمة يعني أنه لا يرضى بما دون الجنة يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إن لي نفسا تواقة... وإنها لم تعط من الدنيا شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه... فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا (يعني الخلافة) تاقت نفسي إلى ما هو أفضل من الدنيا كلها... الجنة ".
فهذه هي نوعية هذه الاهتمامات التي كان يهتم بها المسلمون، لقد كانت هممهم عالية في القمة، ما كان المسلمون يضيعون أوقاتهم في أمور تافهة، ولا يضيعون أموالهم في أمور حقيرة، وإنما كانت همتهم جنة الله تبارك وتعالى، هذا هو الهم الأكبر الذي يسخرون من أجله أموالهم ويسخرون من أجله أنفسهم، قال تعالى: (ِإنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة:111]
فهذا هو الثمن، يبيعون النفس والمال ويقضون حياتهم في طاعة الله سبحانه وتعالى ويقبضون ثمنا لها الجنة، وأنعم به من ثمن.