خلق الله سبحانه وتعالى ابن آدم وأعضاءه، وجعل لكل عضو منها كمالاً، إذا فقده أحس بالألم، وجعل لملكها -وهو القلب- كمالاً، إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان".[ابن القيم- زاد المعاد:604]
ولهذا لا تجد فاجراً ولا فاسقاً ولا عاصياً ولا كافراً إلا مهموماً حزيناً مهما كان، ولا تنظر إلى القشرة الخارجية؛ لا تنظر إلى المراكب الفاخرة، ولا إلى القصور الشاهقة، ولا إلى ناطحات السحاب، ولا إلى الممتلكات مهما كانت؛ فإن الله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124]
والقلب هو محل نظر الله، وإصلاحه يضمن الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، والحصول على هذا الصلاح يستلزم جهدا يليق به، ولا شك أن كل عمل صالح يقوي الإيمان ويزيد في صلاح القلب وكل معصية وذنب تنقص من صلاح القلب، وقد وصف النبي تأثير الفتن والشهوات على القلوب بأبلغ وصف فقال «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (متفق عليه)، فالفتن والمعاصي تسود القلب وإنكارها والبعد منها ينور ويبيض القلب.
والذنوب للقلب بمنزلة السموم؛ إن لم تهلكه أضعفته ولابد، وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض، قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وقد كان الحبيب محمد e يقول: «اللهم نق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» (رواه البخاري)، ويقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (رواه الترمذي وأحمد)؛ فقد كان يدرك أن القلب مركز صلاح المرء وعمله، وهو من قال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت، فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»(رواه البخاري)
فإصلاح القلب ضرورة لحياة الروح وقبول العمل، ومداواتها من أمراضها المتراكمة في زمننا، أمر ممكن، طالما اتبع العبد المؤمن عشر خطوات رئيسية، وهي:
فهذا أشرف العلوم والأعمال وألصقها بالقلب، بل هو أساس إصلاحه، فمتى ما كان القلب لله أعرف فإنه يشاهد بقلبه رباً قادراً عزيزاً سميعاً بصيراً حكيماً لطيفاً غفوراً عفواً رحيماً كريماً جواداً خالقاً مدبراً رازقاً، وكل اسم وصفة من هذه الأسماء وغيرها توجب انكساراً وذلاً وخضوعاً ومحبة وخوفاً ورجاءً واخلاصاً وخشوعاً، وهذا هو عين صلاح القلب وأعلاه.
وهذه وصية رسول الله e لابن عباس: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» [رواه الترمذي]..
يقول ابن القيم: "إن في القلب وحشة لا يُذْهِبُهَا إلا الأنس بالله، وفيه حُزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وفيه فاقه - يعني: فقر - لا يذهبه إلا صدق اللجوء إليه، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تذهب تلك الفاقة أبداً ".
فالقلب المريض ابعد ما يكون عن الصلاح، القلب المريض بالشبهات والشهوات والحقد والحسد والغل والكبر والعجب والقنوط من رحمة الله لا يمكن أن يتعلق بالله ولا يتعبد له بأسماءه وصفاته ولا هو من القلوب الصالحة السليمة، فمن أراد صلاح قلبه فيبعد هذه الأمراض من قلبه ويطهرها منها، قال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر:4]: "جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا: القلب"، وقال ابن القيم: (القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات، هذا أصل داء الخلق إلا من عافاه الله).
والشهوات ظلمة، وهي تنكت في القلب نكتاً؛ فتكاد أن تُظلمه، يقول الله:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا }.[مريم: 59]، وقد ذكرت السنة النبوية من تلك المعاني الكثير، وشبه النبي القلب بأنه حال إيمانه يكون كحجر أبيض أملس نقي، أما العاصي فقلبه مربادا أي يسير فيه البياض مع السواد، ثم تدريجيا يفنى هذا البياض، وتحل الظلمة، ويصبح القلب كالكوز أو الوعاء المائل المنكوس، فلا يمتليء بشيء، وتختلط الأمور أمامه فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، وهذا أخبث القلوب المشرف على الهلاك.
ويؤكد ذلك قول الله تعالي ردا علي المكذبين بيوم القيامة وبين عاقبتهم في الآخرة {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] أي تضاعف الذنب على الذنب حتى عمي القلب ومات.
إن طهارة القلب من أمراضه، هو أعظم أسباب قوته ورقته وخشوعه، يقول النبي لما سُئل عن خير الناس: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان» والمخموم من القلب هو : التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، فلما سأل الصحابة النبي عن موجباته قال: الذي يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة، وهو مؤمن في خلق حسن.(رواه ابن ماجة)
فمن أراد صلاح قلبه فيبعد هذه الأمراض من قلبه ويطهرها منها، قال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر:4]: "جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا: القلب"، وقال ابن القيم: (القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات، هذا أصل داء الخلق إلا من عافاه الله).
الإنسان مكون من جسد وروح وكي يعيش الإنسان وتستمر حياته لا بد أن يعطي لجسده وروحه مقومات الحياة؛ الجسد يحتاج الطعام والشراب ليحيا، والروح تحيا بحياة القلب، يقول النبي e: «مَثَلُ الَّذي يَذْكُرُ رَبَّهُ والَّذي لا يَذْكُرُ؛ مَثَلُ الحيِّ والميِّتِ» [رواه البخاري] فحياة القلب والروح بذكر الله بالقلوب واللسان.
يقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] فالقرآن شفاء القلوب ودواؤها اللازم، وقد سماه الله بالروح لأن به تحيا القلوب، فقال: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: 52]
ولذا كان لزاماً على من أراد صلاح قلبه أن يكثر من ذكر الله وتلاوة كتابه بقلب حاضر خاشع متبتل، قال تعالى ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) [ص: 29] فقد بيَّن سبحانه حكمة إنزاله للقرآن وهي تتدبر آياته ففي التدبر صلاح القلوب وسعادة الدنيا والآخرة، وجاء في الأثر عن النبي e، أنه قال عن تلاوة القرآن: لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدقل، وَلَا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ»(أخرجه ابن أبي شيبة)، فقراءة آيَة بتفكر وتفهم خير من قِرَاءَة ختمة بِغَيْر تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى الى حُصُول الايمان وذوق حلاوة الْقُرْآن..." [ابن القيم- مفتاح دار السعادة].
وعن ذلك يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "إنَّ القرآن ليس كتاب علمٍ نظري أو تطبيقي؛ ينتفع به كل من يَقرؤه ويستوعب ما فيه؛ إنَّما القرآن كتاب يخاطِب القلبَ أوَّلَ ما يخاطب، ويسكب نورَه وعِطرَه في القلب المفتوح، الذي يتلقَّاه بالإيمان واليقين، وكلَّما كان القلب نَدِيًّا بالإيمان، زاد تذوُّقه لحلاوة القرآن، وأدرك من معانيه وتوجيهاته ما لا يدرِكه منه القلب الصَّلْد الجاف، واهتدى بنوره إلى ما لا يَهتدي إليه الجاحِدُ الصادف، وانتفع بصُحبته ما لا ينتفع القارئ المطموس!، وإن الإنسان ليقرأ الآيةَ أو السورة مرَّات كثيرة، وهو غافل أو عَجول، فلا تَنِضُّ له بشيء، وفجأة يُشرِق النور في قلبه؛ فتتفتَّح له عن عوالم ما كانت تخطر له ببالٍ، وتصنع في حياته المعجزة في تحويلها من منهج إلى منهج، ومن طريقٍ إلى طريق" [في ظلال القرآن: 5/ 2626].
هي طاعة معينة تقوم بها لا يعلم بها أحد إلا الله، وأثر ذلك في القلوب وفي الموازين كبير جداً، ولذا يقول الله تعالى: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271]، ويقول e (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تنفق يمينه) (متفق عليه)، ويقول e (إن الله يحب العبد التقي النقي الخفيّ) (رواه مسلم)
فمن أهم ما يصلح القلب ويثبته طاعة السر فهي بعيدة عن الرياء والنفاق، دليل إخلاص وصدق، لا يستطيعها كاذب ولا منافق، قال ابن القيم رحمه الله: "الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات"، ويقول ابن الجوزي "لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت ويتخشع في نفسه ولباسه والقلوب تنبو عنه، وقدره في الناس ليس بذاك، ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته؛ فتدبرت السبب فوجدته السريرة". [صيد الخاطر]
وعلى هذا حرص الصحابة والسلف الصالح على إخفاء أعمالهم عن أعين الناس خوفاً من أن يفسدها الرياء تقرُّباً إلى الله؛ فقد جاء عن الزبير بن العوّام رضي الله عنه أنه قال: "من استطاع منكم أن يكون له خِبْءٌ من عمل صالح فليفعل". وقد عزى الإمام الذهبي إلى إبراهيم الحَرْبي قوله: "كانوا يستحبّون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجتُه ولا غيرها"، وكان علي بن الحسين رحمه الله يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: إن الصدقة في الليل تطفئ غضب الرب.
وقد تكون الخبيئة الصالحة عبادة خفية كصلاة في جوف الليل والناس نيام , أو صيام يوم شديد الحر بينما عامة الناس مفطرون، وقد تكون الخبيئة الصالحة قضاء حوائج المسلمين من الضعفاء والعاجزين والمساكين، وقد تكون الخبيئة عمل قلبي محض لا يمكن يطلع عليه إلا فاطر القلب وخالقه، وأيا ما تكون هذه الخبيئة فهي صلاح للقلب وتزكية له ورفعة في الإيمان ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها.
من أساب الحاجة لهذه المجاهدة أن النفوس جبلت وزين لها كثير من الشهوات فينصرف القلب إليها وينسى تعلقه بالله وينسى أن الذي يهبها هو الوهاب سبحانه، ما لم يجاهد نفسه قال تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) آل عمران:14
فالقلوب تحتاج لمجاهدة وصبر وعناية، ولا تسير القلوب على ما يريد الإنسان بيسر وسهولة، إذ لا بد من المجاهدة، يقول أويس القرني -رحمه الله-: "إذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك فلن تعالج شيئًا أشد عليك منهما"، ويقول يوسف بن أسباط -رحمه الله-: "تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد"، فمن أراد صلاح قلبه فعليه بمجاهدة نفسه.
فالنفس بطبيعتها تتنسى وتغفل وتنحرف وتحيد عن المنهج، لكن بمجاهدتها تهتدي وهذا وعد من الله في قوله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] فمن جاهد لصلاح قلبه هداه الله لصلاحها فهو الهادي المعين
إن النفوس جبلت وزين لها كثير من الشهوات فينصرف القلب إليها وينسى تعلقه بالله وينسى أن الذي يهبها هو الوهاب سبحانه، ما لم يجاهد نفسه، يقول الله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ] آل عمران:14 [
يحتاج القلب لصلاحه إلى عدم الغفلة والانشغال بالدنيا، ومجالسة من غفل عن ذكر ينسي ذكره وتعلق القلب به سبحانه، ويصلح القلب والدين بالجلوس مع الصالحين، فقد قال رسول الله e (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) [رواه أبو داوود]، وفي نصح النبي للمسلمين: « لا تصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقيٌّ»(رواه الترمذي).
وقد أمرنا الله بمجالسة الصالحين في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) الكهف:28 وفي الآية الكريمة مدح لمن يصبر على طاعة الله وهي أعلى أنواع الصبر ونهي عن مجالسة (مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية.[تفسير السعدي]
ذلك أن مجالسة الصالحين تحيلك من ستة إلى ستة: "من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص،ومن الغفلة إلى الذكر،ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة،ومن الكبر إلى التواضع،ومن سوء النية إلى النصيحة" [ابن القيم- مدارج السالكين]
وقد يتساهل المسلم في الجلوس مع غير الصالحين فيغفل قلبه عن ذكر الله فيحول الله بينه وبين قلبه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) الأنفال: 24، فيطيع من أغفل الله قلبه (ولَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) فيصبح مثله ويتغطى قلبه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)، ولذا كان السلف حريصون عن البعد عن أهل الغفلة عامة وأهل الأهواء خاصة: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:" لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلوب" [أخرجه الآجري في الشريعة 1/453] وقال الإمام ابن بطة العكبري الخليلي عن أهل البدع: "هم أشد فتنة من الدجال وكلامهم ألصق من الجرب وأحرق للقلوب من اللهب فلا تجالسوهم" فلا تحرق قلبك وتمرضه بمجالسة أهل الغفلة واصبر نفسك مع الصالحين لعل الله يصلح لك قلبك.
عدم الإنشغال بفضول الدنيا حتى لو كانت هذه الفضول مباحة، فيبتعد عن فضول الخلطة أو الأكل والشرب أو فضول الحديث أو النوم، فهذه تعلق قلبه بغير الله، يقول ابن القيم: " صَلَاحُ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتُهُ عَلَى طَرِيقِ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مُتَوَقِّفًا عَلَى جَمْعِيِّتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلَمِّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فُضُولُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَفُضُولُ مُخَالَطَةِ الْأَنَامِ، وَفُضُولُ الْكَلَامِ، وَفُضُولُ الْمَنَامِ، مِمَّا يَزِيدُهُ شَعَثًا، وَيُشَتِّتُهُ فِي كُلِّ وَادٍ وَيَقْطَعُهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُضْعِفُهُ أَوْ يَعُوقُهُ وَيُوقِفُهُ" زاد المعاد 2:82،
وقال:" أَمَّا مَا تُؤْثِرُهُ كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ: فَامْتِلَاءُ الْقَلْبِ مِنْ دُخَانِ أَنْفَاسِ بَنِي آدَمَ حَتَّى يَسْوَدَّ، يُوجِبُ لَهُ تَشَتُّتًا وَتَفَرُّقًا، وَهَمًّا وَغَمًّا، وَضَعْفًا، وَحَمْلًا لِمَا يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ مِنْ مُؤْنَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَإِضَاعَةِ مَصَالِحِهِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِهِمْ وَبِأُمُورِهِمْ، وَتَقَسُّمِ فِكْرِهِ فِي أَوْدِيَةِ مَطَالِبِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَمَاذَا يَبْقَى مِنْهُ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ؟ " مدارج السالكين 1:452
وقال: " تَرْكُ فُضُولِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْفُضُولَ تَسْتَحِيلُ آلَامًا وَغُمُومًا وَهُمُومًا فِي الْقَلْبِ، تَحْصُرُهُ وَتَحْبِسُهُ وَتُضَيِّقُهُ وَيَتَعَذَّبُ بِهَا، بَلْ غَالِبُ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهَا، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَضْيَقَ صَدْرَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ آفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِسَهْمٍ، وَمَا أَنْكَدَ عَيْشَهُ، وَمَا أَسْوَأَ حَالَهُ، وَمَا أَشَدَّ حَصْرِ قَلْبِهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَنْعَمَ عَيْشَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ بِسَهْمٍ، وَكَانَتْ هِمَّتُهُ دَائِرَةً عَلَيْهَا، حَائِمَةً حَوْلَهَا، فَلِهَذَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار: 13] [الِانْفِطَارِ 13]، وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار: 14] [الِانْفِطَارِ 14]، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى." زاد المعاد 2:26
يقول النبي في النهي عن فضول الكلام: «كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله»)رواه الترمذي)، وعن فضول الطعام يقول :« ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ أكلاتٍ يُقمنَ صُلبَهُ»(رواه الترمذي).
لذلك أوصى الحسن البصري كل من ضاع خشوعه والتمَس دموع الخشية فلم يجدها، أوصاه بهذه العملية المجربة واقعيًّا، فقال: "من أراد أن يخشع قلبه ويَغزر دمعه، فليأكل في نصف بطنه"، وروي عن الثوري: خلصتان تقسيان القلب؛ طول الشبع، وكثرة الكلام، فالنوم فيه طول الغفلة وقلة العقل ونقصان الفطنة وسهوة القلب ؛ وكثرة الكلام فيه قلة الورع وعدم التقوى وطول الحساب لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان .]أبوطالب المالكي- قوت القلوب:1/175[
حضور مجالس العلماء وحلقاتهم، والعكوف على فهم وتدبر كتاب الله وسنة نبيه، من أسباب صلاح القلوب، يقول الله: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[فاطر: 28]، ويصف الله أولي العلم بأصحاب القلوب المخبتة، يقول الله:" لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 53، 54].
يقول ابن القيم : (وأما العلماء بالله وأمره فهم حياة الوجود وروحه، لا يستغنى عنهم طرفة عين.. فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات. فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن وكنسبة كلام اللسان إليه، فإذا عدمه كان كالعين العمياء، والأذن الصماء، واللسان الأخرس؛ ولهذا يصف الله أهل الجهل بالعمي والصم والبكم، وذلك صفة قلوبهم حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصممها وبكمها يقول الله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } [الإسراء: 72] والمراد عمى القلب في الدنيا [ابن القيم- مفتاح دار السعادة]
فطلب العلم سبب لحدوث الخشية، يقول الله عز وجل : " قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " [الإسراء: 107-109] (كتاب أخلاق العلماء للآجري) .
فالهمة العالية ترفع صاحبها عن الأوساخ والأمراض وتجعل قلبه يحلق في التأمل في أسماء الله وصفاته وآلائه، ولا ينشغل بالسفاسف عن ما يصلح قلبه وينقيه، وقد ساق ابن القيم هذا التشبيه : ومثل القلب مثل الطائر، كلما علا، بعد عن الآفات، وكلما نزل، أحاطت به الآفات]الجواب الكافي:98[
قال e ( إن الله تعالى يحبُّ معاليَ الأمور وأشرافَها، ويكره سفسافَها ) رواه الطبراني، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (لا تصغرنَّ همتكم؛ فإني لم أرَ أقعد عن المكرمات من صغر الهمم) [أدب الدنيا والدين] .
فلا يستوي من همه صلاح قلبه ويحلق قلبه ويطوف بالعرش ومن يطوف قلبه في الحش، فرب قائم يصلي وقلبه يجول في ملاذ الدنيا وشهواتها، ورب مستلق على فراشه وقلبه متعلق بربه متأمل في جماله وجلاله.