القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والقلب جزء من أعضاء الجسد ومضغة منه لكنها ملك الجسد ومحركه وأفضله وأكثره أهمية ولذا أعماله أفضل في الجملة من أعمال باقي الجوارح، وتفضل أعمال القلوب على أعمال الجوارح من عدة أوجه، منها:
وقال: "وعمل القلب؛ كالمحبَّة له والتوكُّل عليه، والإنابةِ إليه والخوفِ منه، والرَّجاءِ له وإخلاص الدِّين له، والصَّبرِ على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره، والرِّضى به وعنه، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والذلِّ له والخضوع، والإخباتِ إليه والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرْضها أفرْضُ من أعمال الجوارح، ومستَحَبُّها أحبُّ إلى الله من مستحَبِّها، وعمَل الجوارح بدونها إمَّا عديم المنفعة أو قليل المنفعة (مدارج السالكين (1 / 114:
وينبني على هذا أن أعمال الجوارح محدود أجرها بينما أعمال القلوب لا حد لها ومستمرة وتتضاعف في كل الأوقات والأحوال فإذا كان العبد محب لله ومخلص له وصابر وشاكر فهو في كل أحواله كذلك لا يرتبط بوقت ولا حال وتستمر أجوره العظيمة وعطايا ربه الكريم عليه في كل وقت.
بل العجيب أن بعض أعمال القلوب تستمر حتى بعد الموت وانقطاع جميع أعمال الجوارح!، فيبقى العبد موحداً مخلصاُ لله ومحباً له ومعظماً له حتى بعد موته، فلما يسأله الملكان في القبر يجيب بالتوحيد، وأهل الجنة يحبون الله ويقدسونه ويعظمونه وهم في الجنة، فيا لأهمية وبركة وعظم أعمال القلوب.
فأصل الدين وجوهرة هو الأعمال الباطنة، والأعمال الظاهرة وأعمال الجوارح لا تقبل ولا يعتد بها ما لم يصاحبه الأعمال القلبية، فمن صلى أو صام أو حج أو قرأ القرآن مرائياً كانت صلاته وزر وخطيئة لا أجر وعبادة، فرغم أن ما قام في شكله ورسمه وطريقته عبادة إلا أنه لما خلا من أعمال القلوب لم يكن عبادة ولا مطلوب لأنه بدون الأصل الذي تقوم عليه جميع الأعمال وهو أعمال القلوب.
فمن أعتنى بأعمال قلبه زادت أعمال قلبه فحركته للعبادة وزادت أعماله جوارحه، ولذا من وجد فتوراً في أي عبادة من ذكر أو صلاة أو صوم أو حج فعليه بالاهتمام بأعمال قلبه وسيعقبها نمو وتحسن وتحفز في أعمال الجوارح، فأعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ولذا قال e (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله) رواه مسلم
فتفاضل أعمال العباد عند الله جل وعلا بتفاضل ما في قلوبهم من أعمال القلوب، فقد يعمل الرجلان عملاً واحداً، والفرق بين عمليهما عند الله كما بين السماء والأرض، لتفاضل ما في قلبيهما من أعمال القلوب، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
ولذا كان سير القلوب إلى الله وأعمالها يوصل إلى ما لا يوصل له سير الأبدان وأعمالها، وكان العناية بها يعوض كل نقص أو مشقة أو ضعف أو عدم قدرة في أعمال الأبدان، فما أكرم الكريم سبحانه.
غير أنَّ ما ذُكر من العناية بعمَل القلب ليس مَعناه الاقتِصار عليه دون عمَل الجوارح؛ إذ بين عمَل القلب وعمَل الجوارح تلازُمٌ ضروري، قال ابن تيمية: "وكذلك أعمال القلب لا بدَّ أن تؤثِّر في عمل الجسَدِ، وإذا كان المقدَّم هو الأوجب، سواء سمِّي باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يسمَّى باطنًا أوجَب؛ مثل ترْك الحسَد والكِبر، فإنَّه أوجب عليه من نوافِل الصِّيام، وقد يكون ما يسمَّى ظاهرًا أفضل؛ مثل قيام الليل، فإنَّه أفضَل من مجرَّد ترْك بعض الخواطِر التي تَخطر في القلب من جِنس الغِبطة ونحوها، وكلُّ واحد من عمَل الباطِنِ والظَّاهر يُعين الآخَر. (مجموع الفتاوى: 11/ 381، 382)
وقال: "إنَّ الصِّراط المستقيم هو أمورٌ باطِنة في القلب؛ من اعتقاداتٍ وإرادات وغيرِ ذلك، وأمورٌ ظاهرة؛ من أقوالٍ وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضًا عادات؛ في الطَّعام واللِّباس، والنِّكاحِ والمسكن، والاجتِماعِ والافتراق، والسَّفرِ والإقامة والركوبِ، وغير ذلك، وهذه الأمورُ الباطِنة والظَّاهرة بينهما - ولا بد - ارتِباطٌ ومُناسبة؛ فإنَّ ما يقوم بالقلب من الشُّعور والحال يوجِب أمورًا ظاهرة، وما يَقوم بالظَّاهر من سائر الأعمال يوجِب للقلب شعورًا وأحوالًا. (اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 80 :
وقال ابن القيم: "فكلُّ إسلامٍ ظاهِر لا يَنفُذ صاحبُه منه إلى حقيقة الإيمانِ الباطِنة فليس بنافِعٍ حتى يكون معه شيءٌ من الإيمان الباطِن، وكلُّ حقيقةٍ باطنة لا يقوم صاحبُها بشرائع الإسلام الظَّاهرةِ لا تَنفع ولو كانت ما كانت؛ فلو تمزَّق القلب بالمحبَّة والخوفِ، ولم يتعبَّد بالأمر وظاهِرِ الشَّرع لم ينجِه ذلك من النَّار، كمان أنَّه لو قام بظَواهر الإسلامِ وليس في باطِنه حقيقةُ الإيمان لم يُنجِه من النار. (الفوائد: 179-180)
وهذا التلازُمُ بين الظَّاهِر والباطِن يبيِّن لك أنَّ نقص أحدهما مؤثِّر على نقْص الآخَر؛ فالنَّقصُ في الأعمال الظَّاهرة إنما هو لِنقص ما في القلب من الإيمان، كما أنَّ التفريط في الأعمال الظَّاهرة مؤثِّر على نقص الإيمان القَلبي، وكمالُ الإيمان الواجِب الذي في القلب لا يُمكن مع انعِدامِ الأعمال الظَّاهرة الواجبة، بل يَلزم من وجود هذا كاملًا وجودُ هذا كاملًا، كما يَلزم من نقْص هذا نقصُ هذا. (القتاوى: 3/582)