يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 3-5).
فأهل اليقين يوقنون بالآخرة والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار، لذا فإن الحياة بما فيها وبمن فيها تهون في أعينهم أمام مرضاة الله تعالى وانتظار الجزاء الأوفى منه سبحانه.
فاليقين يجلب كل الصفات الحسنة وكل شعب الإيمان، وكل ما يحبه الله ويرضاه، وإنما هنا نركز على بعض الصفات التي يختص بها أهل اليقين في الدنيا عن غيرهم وإلا فهي كثيرة جداً نختار بعضها على سبيل المثال فقط:
ومن صفات أهل اليقين التيقن الكامل بأن الرزق ليس بيد أحد من البشر وإنما هو بيد الله تعالى وحده، قال سبحانه: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}(الذاريات:20 ) ، لذا تجدهم ينفقون ويتصدقون ولا يخشون الفقر والإقلال، ويعطون ويبذلون عن إيمان ويقين.
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم قْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا..» (رواه الترمذي) فإن أعظم الناس صبرا، هو أعظمهم يقينا، كما قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] ويتبع ذلك راحة النفس وطمأنينة القلب فيما يفوت من حظوظ الدنيا، ثقة بموعود الله، ورجاء العوض والخلف منه سبحانه فيا لسعادتهم في الدنيا ويا لطمأنينة قلوبهم.
قال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(البقرة:118)، فأهل اليقين الحق عندهم واضح وضوح الشمس، لذا فهم لا يراءون ولا ينافقون.
قال تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وأهل اليقين يحكمون شرع الله تعالى في جميع أمورهم، فلا يحكمون الهوى ولا الطاغوت، ويجاهرون بكلمة الحق لعلمهم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى وحده، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».(رواه أبو داود:4344)
فصاحب اليقين ثابت صابر محتسب لا يستخف ولا يخوف لأنه يوقن أن الله هو الذي يدبر الأمر كله وبيده الأمر كله، لذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والثبات وأن لا يطيش كالذين لا يوقنون ، يقول الله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، " وَقيل إِذا اسْتكْمل العَبْد حَقِيقَة الْيَقِين صَار الْبلَاء عِنْده نعْمَة والمحنة منحة" (ابن القيم-مفتاح دار السعادة: 155)
قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، فأهل اليقين هم الذين يدورون مع القرآن حيث دار يتخلقون بأخلاقه ويقفون عند حدوده، فهم يوقنون أن هذا كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإذا اجتمع هذا مع الصبر نال صاحبه الإمامة في الدين وهي المرتبة الرفيعة التي توجب المنزلة العالية في الجنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في درجات السعادة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)( قاعدة في الصبر:94)
قال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3]، وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75].
فأهل اليقين يتفكرون في ملكوت الله ويرون إعجاز الله في خلقه، ويظهر هذا على التفكر على سلوكهم.
ولذا قام سيد الموقنين صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة، فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي قالت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك ، فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: «يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إن في خلق السماوات والأرض)».( رواه ابن حبان)
قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(يونس:107)
قال تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ] يس:82 [.قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: " الرِّضَا أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَاللهُ بِقِسْطِهِ وَعِلْمِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ(البيهقي- شعب الإيمان: 1/384)
فلا تتعلق نفس الموقن بها، ولا يتشبث بُحطامها، وإنما يكون زاهداً فيها؛ لأنه يعلم أنها ليست موطناً له، ولأنه يعلم أنها دار ابتلاء، وأنه فيها كالمسافر يحتاج إلى مثل زاد الراكب، ثم بعد ذلك يجتاز ويعبر إلى دار المقام، فهو بحاجة إلى أن يشمر إليها، وأن يعمل لها.
فعن الحسن قال: ما أيقين عبد بالجنة حق يقينهما إلا خشع ووجل وذل واستقام واقتصر حتى يأتيه الموت. ( ابن أبي الدنيا: اليقين 97 )
ذلك ليقينهم التام بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الرزق ليس بيد أحد من البشر وإنما هو بيد الله تعالى وحده، قال سبحانه: {َفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}[الذاريات: 20-23]، فلا خوف لديهم من الرزق أو وصوله لهم فهم يوقنون أن رزقهم واصل لهم من ربهم لا يمنعه أحد عنهم .
قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لن تموت نفس قبل أن تستكمل رزقها» قال المناوي في شرح الحديث: " إن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها. الذي كتبه لها الملك وهي في بطن أمها فلا وجه للوله والتعب والحرص والنصب إلا عن شك في الوعد، وتستوعب رزقها كذلك ".
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزمر-53)
فهم بيقينهم يحسنون الظن بربهم ويوقنون أنهم مقبلون على رب رحيم،يستر ويغفر ويعفو ويوقنون أنه الكريم الجواد الوهاب فكيف لا يحسنون الظن به سبحانه.
فيقينهم بالله وتوكلهم على الله واستشعار معيته لهم يورثهم من القوة والشجاعة والطمأنينة ما لا يعرفها غيرهم: قال صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد أحدقت بهم الأخطار «ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا»(رواه مسلم).
وعن شجاعة النبي صاحب اليقين قال سبحانه:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم}(التوبة:40).
ولننظر لموقف موسى الثابت باليقين، في قول الله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}(الشعراء:60-61)