اليقين أعلى منازل عبادات القلوب، وعليه مدارها، وهو بمنزلة الروح لأعمال القلوب التي هي أرواح لأعمال الجوارح.[ابن القيم]
واليقين من أهم الأعمال التي تؤثر في القلب وتزكيه، وتنمي وتقوي أعمال القلوب الأخرى، قال ابن القيم: "اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم" [مدارج السالكين:2/397]
فالقلب الموقن بالله محب له خائف منه راج له راض بحكمه صابر على قضائه متوكل عليه مخلص له، أما الذين ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون وتتردد قلوبهم في أعمالها وتضرب وتموج، فبوابة صلاح أعمال القلوب صلاح القلب باليقين وطرد الشك والظن والهوى من القلب، إذ اليقين أصل صلاح أعمال القلوب والشك أصل فساد أعمال القلوب.
بما أن اليقين هو جوهر وأساس الإيمان فهو يؤثر في كل الأعمال القلبية بدون استثناء، وما سنذكره مجرد مثال على ذلك:
يظهر اليقين في كل أعمال الإنسان وجوارحه، كما يظهر الشك فيها، لذا فإن أوضح صفات المؤمنين أنهم يوقنون ولا يرتابون، يقول الله:{إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، فمتى ما امتلأ القلب باليقين امتلأ محبة ورجاءً وخوفاً واجلالاً وتعظيماً لله، وصلح القلب وزكا، ومتى ما صلح القلب صلحت الجوارح كلها تبعاً له فهو الملك وهي التابعة له.
ولذا كان اليقين جالب لصلاح القلب وصلاح الجوارح، وكان التردد والظن واتباع الهوى وسوء العمل دليل على ضعف اليقين، فبقدر اليقين يصلح العمل وتصلح الجوارح وبقدر الشك والريب يضعف العمل.
فالقلب الموقن بأسماء الله وصفاته يستلزم لكل اسم وصفة عبودية خاصة لجوارحه، فمتى ما أيقن القلب أن الله سميع قريب مجيب لم ينفك عن دعاءه والتضرع إليه، ومتى ما أيقن القلب أن الله كريم جواد لطيف شكور لم ينفك عن شكره وحمده وذكره، ومتى ما أيقن القلب بجماله سبحانه وجلاله لم ينفك عن بذل جهده في عبادته بكل جوارحه.
اليقين بالله وأسمائه وصفاته هو تمام المعرفة بالله وعدم الشك فيه، ومعرفة الله أشرف العلوم، وشرف العلم بشرف المعلوم سبحانه، فإذا أيقن القلب بهذه المعرفة فقد أثمر كل خير وبر.
اليقين مناقض للشك والريب، يقول الله: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، واليقين من صفات المؤمنين {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
والشك والتردد وعدم اليقين من صفات المنافقين الذين لا يوقنون قال تعالى: { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } [الحديد: 14]، وقال تعالى{ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [التوبة: 45]
وبمقدار قوة اليقين وشموله بمقدار زيادة الإيمان وقوته، وبمقدار ضعف اليقين أو انحساره أو الغفلة عنه بمقدار زيادة الشك والريبة في النفوس.
ولذا على المؤمن سقي شجرة اليقين في قلبه ورعايتها وإزالة كل أسباب الشك والريبة عنها، فاليقين يزداد بالعِلْم مرَّة، أو برؤْيةِ كرامةٍ أو آيةٍ، أو بثباتٍ أو سكينةٍ، أو طمأْنينة يَضعُها اللهُ في قلوب مَن يشاء مِن عباده، والشك والريبة والظن تزداد بالغفلة ونقص الإيمان والهوى.
اليقين موصل لسعادة الدنيا والآخرة ورضوان الله، والشك موصل للتردد والهوى والظن والنفاق والضلال وخسارة الدنيا والآخرة {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]
قال ابن القيم: فَإِذا بَاشر الْقلب الْيَقِين امْتَلَأَ نورا وانتفى عَنهُ كل ريب وَشك وعوفي من امراضه القاتلة وامتلأ شكرا لله وذكرا لَهُ ومحبة وخوفا فحبي عَن بَيِّنَة [مفتاح دار السعادة:154]