ملخص الدنيا في دورة حياة النبات
قال تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه
[الكهف:45] (الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً
وقال تعالى:(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) [الواقعة:68]
يشبه الله الدنيا بالمطر النازل من السماء الذي ينبت النبات في الأرض، الذي بدوره ما يلبث إلا أن يتحول إلى صورة يابسة متفتتة تطيرها الرياح وتفرقها.
فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله، ولا يغترن أهل الدنيا بدنياهم، فإنما مثلها مثل هذا النبات الذي حسن استواؤه بالمطر، فلم يكن إلا فترة صغيرة حتى عاد يابسا تذروه الرياح فاسدًا.
فكذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه وقوته، وخاض في لذاتها، وشهواتها، حتى ظن أنه لا يزال فيها للأبد، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته.
وهنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة الأمر، ويتمنى الرجوع إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط في جنب الله بالتوبة والأعمال الصالحة.
فالعاقل الجازم الموفق يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي، فأي الحالتين تختارين؟ أتغتر بزخرف زائل، أم تعمل لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه.
فالحياة الدنيا حين تُقاس بمقاييسها هي، وتُوزن بموازيننا، تبدو في العين وفي الحسِّ أمرًا عظيمًا كبيرًا، لكنها حين تُقاس بمقاييس الوجود، وتُوزن بميزان الآخِرة تبدو شيئًا زهيدًا تافهًا، ويكفي لتبيان ذلك الحجم الحقيقي لها تذكر سرعة زوالها وانقضائها.
وقد علمنا النبي أن ندعو الله بهذا الدعاء:(اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) [رواه الترمذي]
وقد عرف الناس من تجاربهم من الدنيا: أن أشهر أوصافها "الغدر" فما أسرع ما تتخلى عن عشاقها وخدامها أحوج ما يكونون إليها، وأكثر ما يكونون ركوناً إليها وتعويلاً عليها. وما أصدق ما قال الشاعر في وصفها:
هي الدنيا تقول بملء فيها: حذار، حذار، من غدري وفتكي
فلا يغرركمو مني ابتسـام فقـولي مضحك والفعل مبكي
ومن ثم عرف أولو الألباب أن هذه الدنيا لا ثقة بها، ولا أمان لها، ولا اطمئنان إليها، ولا اعتماد عليها، فهي متقلبة بطبعها والإنسان فيها - وإن أوتي ما أوتي من النعم والمكانة والقوة- معرض ما بين لحظه وأخرى، لمصيبة نازلة، أو نعمة زائلة، أو ضربة قاتلة، ورحم الله القائل في وصف الدنيا:
جبلت على كدر، وأنت تريدها صفواً من الآلام والأكدار!
ومكلف الأيام ضد طباعهــا متطلب في الماء جذوة نار!
وقد دخل بعضهم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فوجده يقول مخاطباً الدنيا: "إليك عني يا دنيا، غري غيري، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعه فيها، فعمرك قصير وخطبك حقير" [التبصرة] .
فمن طبع الدنيا الغدر الشديد، كما قيل في الحكمة: إن الدنيا إذا أقبلت بلت، وإذا كست أوكست، وإذا اخضرت ضرت، وإذا أركبت كبت، وإذا حلَتْ أوحلتْ، وإذا أبهجت هجَتْ، وإذا أينعتْ نعَتْ، وإذا أكرمت رمتْ.