وصف الله الحياة الدنيا بصفات تبين للعاقل حقيقتها وتجعله يفهمها ويتصورها بدقة، بل وتجعله يزهد فيه ويحرص على ما ينفعه فيها وفي الدار الآخرة الباقية، ولا شك أن دراسة هذه الصفات وتأملها وفهمها يرفع من مستوى الإيمان بالآخرة ويجعلنا لا نغتر بالدنيا ولا نحزن عليها، ولا تكون غاية همنا ومبلغ علمنا، وتجعل العاقل متزناً في حياته الدنيا ويعطيها حقها فيسعد فيها، ولا يفرط في آخرته وحياته الأبدية، وقد ورد وصف الحياة الدنيا في كتاب الله بعدة أوصاف منها قوله تعالى (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [الحديد:21]
منها:
(اللهو (إنما الحياة الدنيا لهواللهو هو الانشغال عما ينفع، وقد يكون فعلاً من أفعال النفس غير مصحوب بحركة ويكون حينئذ أقرب إلى معنى الذهول عن الشيء.
وعلى هذا فإن كل فعل يمكن أن يكون لهواً إن شغلك عما ينفعك، وقد ينفرد اللهو في الذهول النفسي ولو لم يُصاحبه عمل.
قال تعالى: (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء:2-3 ]
فإسناد اللهو إلى القلوب دليل على أن اللهو عمل من أعمال النفس، وليس بلازم أن يُصحب بحركات وأفعال، وإلا لكان لعباً.
قال ابن عرفة النحوي في قول الله جل وعز (لاهية قلوبهم) [الأنبياء: 3]
أي متشاغلة عما يدعون إليه، وهذا من لهي عن الشيء يلهى إذا تشاغل بغيره
والدنيا تلهي القلوب وتشغلها عن ذكر الله، سواء بالمسرات أو بالأحزان أو بالقلق، أو حتى بمجرد الغفلة والتيه، فكل هذا لهو وضياع.
يقال لهوت عن الشيء إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وهكذا فإن ترك ذكر الآخرة والانشغال عن عبادة الخالق ﷻ هو اللهو الأعظم.
وعمر الإنسان هو رصيده في هذه الحياة؛ ولأنّه سوف يسأل عنه بين يدي الله؛ فكان لزاما على الإنسان أن يستغل وقته؛ حتى لا يضيع ويتفلت منه فيما لا حاجة فيه، فيخرج من هذه الدّنيا فارغ اليدين من الحسنات والثواب.
فاللهو قد لا يكون حرامًا ولا منكرًا في حد ذاته، فالتجارة مثلاً حلال، ولكن عندما تشغلك تجارتك الحلال عن الصلاة، والقرآن وصلة الرحم، حينئذٍ تصير التجارة من اللهو.
قال تعالى (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) [النور:36]
فقد أوضح الله في هذه الآية أن في المساجد التي أذن الله أن تبنى ويذكر فيها اسمه أي ويردد فيها وحيه، رجال يسبحون لله بالغدو والأصال والمراد يطيعون حكم الله ويعبدونه ليل نهار، ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعة الله.
وقد نهى الله عن الالتهاء بالأموال والأولاد عن الطاعة والعبادة قائلاً (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك منكم فأولئك هم الخاسرون) [المنافقون:9]
قال الزمخشري في تفسيره أن المعنى: لا تشغلكم أموالكم والتصرف فيها، والسعي في تدبير أمرها، والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال، وابتغاء النتاج والتلذذ بها، والاستمتاع بمنافعها ولا أولادكم وسروركم بهم، وشفقتكم عليهم، والقيام بمؤنهم، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم، وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند الله، عن ذكر الله وإيثاره عليها ومن يفعل ذلك يريد الشغل بالدنيا عن الدين فأولئك هم الخاسرون في تجارتهم حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
فبرغم أن رعاية الأبناء مثلاً من المباحات بل من الطاعات إن نوى المرء بذلك الخير، إلا أن الانشغال برعايتهم عن أداء ما أمر الله به من الطاعات والقربات يجعل هذا العمل من اللهو المحرم الذي توعد الله صاحبه بالخسارة الشديدة.
وكل ساعة تمر على المرء لم يذكر الله فيها، ولم يعمل فيها خيرا فهو وقت ضائع، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة) رواه أحمد وأبو داود.
قال الشيخ العثيمين في شرح رياض الصالحين: هذه الأحاديث تدل على أنه ينبغي للإنسان إذا جلس مجلسًا أن يغتنم ذكر الله ﷻ والصلاة على النبي ﷺ، حيث إنها تدل على أنه ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على النبي ﷺ وعلى آله وسلم إلا كان عليهم من الله ترة، يعني قطيعة وخسارة.
سكرة اللهوواللهو من أكبر أدواء الدنيا؛ لأنه يعمي الإنسان تمامًا ويجعله مثل السكران لا يكاد يفيق ويبصر طريقه، ولهذا أوصانا النبي ﷺ بالاستمرار والمداومة على مقاومة هذا اللهو بتكرار تذكير القلب بالله وبالآخرة.
قال ﷺ: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم (رواه الطبراني
فالغفلة تستولي على القلب بمرور الوقت وتعاقب الأيام، والمعاني الإيمانية تبهت في القلب حتى تستولي الغفلة عليه، إن أهمل المرء تجديد إيمانه ومتابعة تعاهد قلبه بالقرآن والذكر، فالقلب مثل النبات يحتاج للري المستمر والرعاية المتواصلة.
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "شجرة الإيمان في القلب، أصلها ثابت وفرعها في السماء" أصلها ثابت التوحيد ومعرفة الله خوفًا ورجاء ومحبة، أصلها في القلب، وفرعها في السماء، الأعمال الصالحة طاعة صاعدة، والشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميتها، فإذا قطعت السقي أوشك أن تيبس، فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع، والعمل الصالح، والعود بالتذكر على التفكير، والتفكر على التذكر، وإلا أوشك أن تيبس".
وقد وصف الله بعض أهل الباطل بأنهم (في سكرتهم يعمهون) والسكرة مشتقة من السَكْر بفتح السين وهو السد والغلق، والمقصود بها ذهاب العقل، وأطلقت هنا على الضلال تشبيها لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته.
و(يعمهون) مأخوذة من العمه وهو عمى القلب، فالانغماس في الدنيا يعمي القلب، ويُسكر العقل، ويجعل المرء فاقدًا لهدفه في الحياة، ساهيًا عما ينفعه، وعما يضره أيضًا، يعيش بلا بصيرة ولا رؤية كمعيشة الأنعام السائمة، غافلاً عن حاله ومستقبله.
فاللهو مرض عضال؛ لأن صاحبه لا يدرك أنه مصاب به، فهو مشغول عن الله، بل عن مصير نفسه التي بين جنبيه، لأنه بعيد عن الطاعة والقربات، ودواء هذا الداء لا يكون إلا بذكر الله وذكر الموت، فبهذا يتم مقاومة داء الغفلة.
قال ابن القيم في "الجواب الكافي": "الطاعة حصن الرب تبارك وتعالى الذي من دخله كان من الآمنين... فإن ذِكر الله وطاعته والصدقة وإرشاد الجاهل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقاية ترد عن العبد، بمنزلة القوة التي ترد المرض وتقاومه."
ولذا تجد من خلا قلبه من ذكر الله وأعماه اللهو لا يكاد ينتفع بالعظات التي يراها حوله في الحياة لأن اللهو يصد القلب عن الفهم والاعتبار.