عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: خط النبي خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خُططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط-، وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا) رواه البخاري.
وهذا تمثيل لحال الإنسان، فالأجل محيط به، وهذا الخط الطويل الذي خارج من المربع هو الأمل، وهو ما يرجوه الإنسان ويؤمله، من الملذات، والطموحات والخطط المستقبلية، وما إلى ذلك، لكن الأجل محدود وهو أضيق وأقل من أن يتسع لآمال الإنسان.
والخطوط الصغار المذكورة في الحديث هي الأعراض، أي ما يعرض للإنسان في حياته من حوادث، وكل إنسان لا تخلو حياته من حوادث ومصائب، فإذا أخطأه هذا، نهشه هذا.
فعبر النبي بالنهش، وذلك إنما يكون للحيوانات المفترسة، وذوات السموم كالحيات، ونحو هذا، فهذه الأعراض تعرض للإنسان وتهدد حياته، فمرة ينقلب بالسيارة، لكنه يخرج من الحادثة سالما، فهذا عرض من الأعراض عرضت له، والمرة الأخرى قد ينجو أيضا لكن قد يصاب ببعض الإصابات، وفي المرة الثالثة يصيبه مرض شديد، لكنه يتعافى منه بعد العلاج والتداوي، إلى أن يأتيه وقت أجله الذي يدركه وينهي حياته في الأجل المحتوم.
فإذا جاء الأجل قُطعت الآمال، فهؤلاء الناس الذين ماتوا، كانت حيواتهم مليئة بالآمال، ولم يكونوا يضعون لها حدا زمنيا، لأنهم لا يعرفون وقت موتهم.
كانت عندهم خطط كثيرة ومشاريع وبرامج، بل بعضهم لربما كان يؤمل أنه سيتوب وسيعمل أعمالا صالحة وطيبة، وسيتفرغ لعبادة الله في أوقات تالية، ثم جاء أجله قبل التوبة وانتهى كل شيء.
وهذا مثل واقعي للدنيا، فحياة كل إنسان مليئة بآمال متتالية متجددة لا تنتهي، لكن فترة وجوده في هذه الدنيا لا تكفي لتحقيق كل آماله العاجلة بتمامها وكمالها، فضلا عن العبادات والأعمال الصالحة التي قد لا يرى مبررا للعجلة في إتمامها، وقد تكون نهايته أقرب مما يتخيل، وآخر صفحات حياته على وشك أن تُطوى، قبل أن يفعل ما يريد في دينه أو حتى في دنياه.
طول الأمل المذموم هو التعلقُ بالدنيا ونسيانُ الآخرة، هو الذي يحمل على الغفلة والتفريط وتسويف التوبة وتأخير الأعمال الصالحة، أما مجرد الأمل والنظر إلى المستقبل بنظرة التفاؤل، دون الغفلة عن الآخرة، فهذا أمر مشروع ومعقول، مشروع شرعه الله، ومعقول يدلّ على كمال عقل صاحبه وفطنته، فالنبي كان يدخر لأهله قوت سنة حين يتمكن من ذلك، كما ورد في صحيح البخاري.
لكن الكثيرين يؤملون في الدنيا كأنهم سيخلدون فيها، وهذا من كيد الشيطان ووساوسه؛ وبه يَستدرج الإنسانَ ويُغويه ويُنسيه، وهو أول حيلة اتخذها لإغواء الإنسان وإيقاعه في المعصية، حين جاء إبليس إلى آدم عليه السلام وهو في الجنة فأقسم له أنه له من الناصحين، وأخبره أنه سيدله على شجرة إن أكل منها لا يفنى عمره ولا يبلى ملكه.
فالشيطان يظل يعِدُ الإنسانَ بالوعود الكاذبة، ويُمنِّيه بالأماني الخادعة، ويشجِّعه على الانغماس في الشهوات، والوقوع في المحرَّمات، واللهث وراء الملذات وتأجيل الطاعات؛ كما قال تعالى عنه: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلا غُرُورًا) [النساء: 120]
. لِذا قال بعض السّلف: إيّاك وسوف، فإنّها من جند إبليس!(اقتضاء العلم العمل)
قال الإمام القرطبي: وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد عضاله ولم يفارقه داء ولا نجح فيه دواء، بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء.
فمن طال أمله ساء عمله واستعبدته الدنيا وشغلته بزخارفها وشهواتها حتى يرحلَ عنها من غير زاد، وانحرف عن الطريق وزاغ عن السبيل؛ لأنّ طول الأمل يجرّ إلى التّسويف، وتعطيل الصّالحات، وتأخير التّوبة عند عمل السّيّئات، والتماطل في ردّ الحقوق، وغير ذلك من المساوئ والقبائح.
-روي ابن الأثير في المناقب أن أبا الدرداء قام على درج مسجد دمشق فقال:يا أهل دمشق، ألا تسمعون من اخ لكم ناصح؟! إن من كان قبلكن كانوا يجمعون كثراً ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً فأصبح جمعهم وبوراً وبنيانهم قبوراً وأملهم غروراً. هذه عاد قد ملأت البلاد أهلاً وملاً وخيلاً ورجالاً. فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد:
ياذا المؤمل آمالا وإن بعدت منه ويزعم أن يحظى بأقصاها
أنى تفوز بما ترجوه ويْكَ وما أصبحت في ثقة من نيل أدناها.
-وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبته: "لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوَ قلوبكم وتنقادوا لعدوّكم، فإنّه والله ما بَسط أملا من لا يدري لعلّه لا يُصبح بعد مسائه ولا يُمسي بعد صباحه، وربّما كانت بين ذلك خطفات المَنايا".
-وقال أبو الدرداء: ابن آدم طأ الأرض بقدمك، فإنها عن قليل قبرك، ابن آدم إنما أنت أيام فكلما ذهب يوم بعضك، ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك (سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز).
-قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إن من الشقاء طولَ الأمل، وإن من النعيم قِصَرَ الأمل". (قصر الأمل)
-وقال الإمام النّوويّ رحمه الله: "لا تركن إلى الدّنيا، ولا تتّخذها وطنا، ولا تحدّث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلّق منها بما لا يتعلّق به الغريب في غير وطنه"(رياض الصالحين).
-وقال أحد الزهاد: كونوا من الله على حذر، ومن دنياكم على خطر، ومن الموت على وجل، ولقدوم الآخرة على عجل (سكب العبرات).