للإيمان في قلب المؤمن تأثير عميق يظهر على كل جوانب حياته ويغير في فكره وسلوكه وأخلاقه وتصوراته، فالفرق بين المؤمن وغير المؤمن كالفرق بين الحي والميت، بلا أي مبالغة، فالقلب الخالي من الإيمان هو قلب مظلم ميت، حتى وإن ظل يؤدي وظائفه البيولوجية.
فالإيمان حياة ونور كما قال الله تعالى (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122]
، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً، فأحياه اللّه، أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه ووفقه لاتباع الإسلام.
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور حين يملأ الإيمان بالله قلبه، فتتكشف له حقائق الوجود، والحياة، والأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس، وحينها يعلم علم اليقين أنه كان ميتًا حين كانت الغشاوة تعمي بصيرته، وكان البعد عن الدين يحجب عن قلبه نور معرفة الله.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت) [رواه البخاري]، فالفرق بين القلب الذي يعرف الله والقلب الذي لا يعرفه، كالفرق بين قلب إنسان حي وآخر ميت، فالإنسان البعيد عن الله حياته ذابلة لا روح فيها حتى لو توفرت له جميع المبهجات والملذات، على العكس من الإنسان المؤمن حتى وإن تعرضت حياته لمنغصات وآلام، فإن يقينه بالله يقويه على مواجهة مشاق الحياة مهما عظمت.
ولذا تجد للمسلم تصوراته الخاصة عن الحياة الدنيا وعن الآخرة، لا تشابهها تصورات الملاحدة ولا اليهود ولا النصارى ولا غيرهم، هذه التصورات المتميزة يصاحبها حياة متميزة سعيدة في الدنيا وحياة آخروية أبدية سعيدة، وبذا يحوز على:
إذا حل الإيمان في قلب الإنسان، أشرقت روحه إشراقًا لا مثيل له، ولا يستطيع أن يصفه إلا من وقر الإيمان في قلبه وذاق لذته بالفعل، لأن هذه اللذة لا تشبه أيًا من متع الحياة الدنيا الأخرى، بل هي نوع من السعادة خاص بالمؤمنين، لأنها لذة يصاحبها اطمئنان قلبي تام من أثر الركون إلى الله.
ومن ذاق هذا الشعور عرف لذته، ومن لم يذقه فإنه ولابد قد ذاق ألم ووحشة البعد عن الله، وخواء القلب، وتألم في هذه الدنيا من الفراغ الروحي الذي سببه ضعف أو غياب الإيمان عن قلبه، حتى ولو لم يعلم سبب هذه الوحشة، ومن جرب الحالين يعرف الفرق بوضوح تام، لأن الفرق بينهما كالفرق بين الضوء والظلمة، أو الليل والنهار، فالمؤمنون سعداء أحياء في هذه الحياة الدنيا، والأشقياء تعساء أموات في هذه الحياة الدنيا مهما تحركوا وملكوا.
وكما فاز وسعد من امتلأ قلبه بالإيمان في الحياة الدنيا يسعد ويفوز في الآخرة، قال تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]
، فهذا فوز الآخرة وهو الفوز العظيم، فناسب أن من زحزح عن نار وشقاء البعد عن الله ودخل جنة الإيمان بالله ومعرفته والأنس به فاز بنعيم وسعادة الحياة الدنيا فكذلك يفوز في الآخرة أيضاً وهذا هو الفوز العظيم (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، كما قال أحد السلف الصالح "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة "، وقال مالك بن دينار رحمه الله "مساكين أهل الدنيا خرجوا فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له وما هو قال الأنس بالله وبذكره"
لا تستوي حياة من امتلأ قلبه بالإيمان مع غيره من البشر؛ سواء في العمل أو السلوك أو الفكر أو طريقة العيش، فالمؤمن الحق يراعي نظر الله ولا يقتصر تقييمه للأمور على حسابات الدنيا العاجلة فقط، فلديه ميزان الإيمان يزن به الأمور ويعطي كل شيء وزنه الحقيقي، فلا يبيع فان بباق ولا يشتري رخيص بغال (وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ) [الضحى:4]، فهو يعرف أن الدنيا ما هي إلا مرحلة صغيرة قصيرة من رحلة طويلة ممتدة لا تنتهي، ولذا تجد يعمل لغدٍ ويخشى لقاء الله وحسابه، ويعطي كل شيء قيمته، ويسعد بهذا الإيمان في الدارين ويظهر هذا في كل جزئية من جزئيات حياته، أما غير المؤمنين فيستعجلون اللذات في الدنيا ويقولون لأنفسهم (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية:2]، فلا يسعدون في هذه الدنيا ولا يشبعون فيها وتتقطع قلوبهم حسرات في الدنيا ويظهر هذا في سلوكهم وطريقة عيشهم.
وكما يرسم الإيمان السعادة وطريقة عيش الناس وتعاملهم في الدنيا فهو يرسمها أيضاً للمجتمعات أيضاً، فالإيمان حينما يتمكن من أفراد المجتمع، فإنه يتحول إلى مجتمع نظيف سعيد لأن أفراده يراقبون الله في أفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، لأنهم يدركون أن عين الله تراهم، وهذا أقوى من أي نظام رقابي في العالم، فعن زيد بن أسلم أن عبدالله بن عمر مر براع يرعى إبلاً فقال: هل من جزرة (أي جمل)؟ فقال: ليس هاهنا ربها (أي مالكها)، فأراد ابن عمر أن يختبره فقال: "قل له: أكلها الذئب"، فرفع يده إلى السماء وقال: فأين الله؟ فقال ابن عمر: أنا والله أحق أن أقول: أين الله؟ واشترى الراعي والغنم فأعتقه وأعطاه الغنم. رواه البيهقي في " شُعب الإيمان "، وابن عساكر في " تاريخ دمشق"، أو كما قالت البنت لأمها لما فكرت في أن تغش اللبن "إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا"
والمؤمن إذا أصابه مرض أو مصيبة أو أذى كان أصبر الناس على ذلك، ليس لأنه لا يتألم بل لأنه يعلم أن الله سيعوضه عنها خيراً لو صبر، ولو أصابته نعمة لم يطغ ويغتر بها بل يزيده ذلك شكرًا لله وحمدًا له وعرفانًا بفضله عليه؛ قال رسول الله e "عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له" رواه مسلم، وصدق e فهذا عجيب جداً أما غير المؤمن فيجزع ويطغى ويتجبر ويشقى ويتقطع قلبه ويتحسر في الدنيا ثم يخسر في الآخرة وذلك الخسران المبين.
والمؤمن يعامل الناس في الحياة الدنيا بطريقة مختلفة، فهو يعلم أن الإحسان إلى الآخرين ثوابه الجنة، وأن
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )، وأن مجرد تبسمه إلى الناس صدقة، ولا يرجو من عمله الصالح أجراً من غير الله، فلا ينتظر شكر الناس ومدحهم على أعماله الخيّرة، بل أحياناً يضطر لإخفاء أعماله الصالحة عن الناس اكتفاءً بنظر الله إليه، ويشعر من هذا بالطمأنينة والسعادة والراحة أياً كان وضعه في الدنيا وأيا كان خلق ودين الذي يتعامل معه، بخلاف أهل الدنيا الذين يرجون إلا الدنيا وينتظرون أجراً -ولو معنوياً- على كل عمل يعملونه لأن همتهم ليست معلقة بالآخرة، فتتقطع قلوبهم حسرة عند كل تعامل أو حادث يمر عليه في هذه الدنيا.