تبدأ حياة كل إنسان في لحظة معينة، ولا توجد نهاية لهذه الرحلة، فالخلود هو مصيرنا جميعًا، فالظالم لا يفلت بظلمه من الله، والمحسن لابد أن يُجازى على إحسانه، ولابد من استيفاء الحقوق لأهلها، فالآخرة هي تكملة لرحلة بدأها الإنسان في الدنيا ولابد للجميع من مواصلة السير في كل المراحل بلا انقطاع أو تأخر، فنهاية الحياة موت وبعد الموت حياة، وفي تلك الحياة الآخرة لا موت أبدًا بعد ذلك، فالنعيم لا ينقطع وكذلك العقاب لمن يستحقه.
فلا يوجد في حس المؤمن أن الميت ينتقل إلى مثواه الأخير!، ولا أن روحه ستنتقل إلى كائن آخر، فقد وقر لديه وفي إيمانه أنه سيكمل رحلته في الآخرة في رحلة أبدية، ولذا كان من أبرز صفات المؤمنين وأولها في القرآن (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة:3] ،فهي في حسهم وتصورهم وإيمانهم رحلة واحد..
لا انفصال
الدنيا هي المرحلة الأولى في مسيرة حياة الإنسان، فبعد الموت يعيش الإنسان حياة برزخية في القبر، ثم إذا نُفخ في الصور انتقل الإنسان إلى يوم القيامة ليعرف مصيره ويتوجه إلى الجنة أو إلى النار.
وعلى حسب أعمال الإنسان في الحياة الدنيا، تكون مكانته ومكانه في جميع المراحل التالية فمن عاش على الطاعة والعبادة في الدنيا، استمتع بنعيم القبر في حياة البرزخ، وأمنه الله يوم الفزع الأكبر مصداقًا لقوله تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام:82]، وعلى حسب أعماله في الدنيا أيضًا يكون من أهل الجنة أو النار، وعلى أساسها تكون درجة النعيم أو العذاب، فالدنيا دار عمل بلا حساب وفي الآخرة حساب بلا عمل.
فالدنيا والآخرة مرحلتان في رحلة طويلة، تترتب الثانية على الأولى ويتحدد مسارها منها، فالحسن البصري يقول: "نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن، وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها للجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار ".
ولا شك أن انفصال الرحلتان عن بعضهما في تصور من لم يؤمن بالغيب ويؤمن بالآخرة يجعل هذه الحياة الدنيا نكد ونصب وشقاء والآخرة بعد ذلك خسران مبين، قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) [الأنعام:31]، ولذا حتى لو أحسن العمل في الدنيا وهو غير مؤمن بالأخرة لم ينفعه فعَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: ( لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) رواه مسلم، أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا بِالْبَعْثِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ كَافِرٌ، وَلَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ.
الفلاح في الآخرة ثمرة للفلاح في الدنيا
الدنيا هي مزرعة الآخرة، فقد قال الله للمؤمنين في القرآن الكريم: (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّه)[البقرة:110]وقال تعالى(جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة:17] ويقال للظالمين: (ذوقوا ما كنتم تكسبون)[الزمر:24] ، فعملكم سبب في ما نلتم وما أصابكم وليس مقابل لعملكم ولذا يقول النبي ( لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) (متفق عليه)، أي لن يدخل أحد الجنة مقابل عمله وإنما بسبب عمله، وإلا ففضل الله وكرمه وجنته لا يحصل مقابل تقصيرنا لكن بسببه يتفضل ربنا علينا، فهو محض التفضُّل والإحسان منه عز وجلّ.
فمفهوم الدنيا عند المؤمنين، أنها المرحلة الأولى في رحلتهم الممتدة والدار التي يتجهزون فيها للقاء الله، ومقر الاختبار والامتحان الذي على أساسه ينالون رضوان الله وجنته، يقول يحيى بن معاذ: " كيف لا أحب دنيا قُدر لي فيها قوت أكتسب به حياة، أدرك به طاعة، أنال بها الجنة"، وسُئل أبو صفوان الرعيني: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟، فقال: " كل ما أصبت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس منها".
وعلى هذا الأساس اتخذ العاقلون الآخرة هدفًا لهم، ولم يجعلوا كل همهم في إدراك ملذات الدنيا، بل علموا أنه لابد من التضحية بالكثير من متاعها في سبيل إدراك النعيم الأعظم عند الله، الذي أعده لعباده الطائعين، فأكرمهم الله بنيل متاع الدنيا والآخرة وسعادتهما، وفي هذا يقول عون بن عبد الله: " الدنيا والآخرة في القلب ككفتي الميزان ما ترجح إحداهما تخف الأخرى"، وقال وهب بن منبه:" إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان إذا أرضى إحداهما أسخط الأخرى".
فالفلاح في الآخرة ثمرة للفلاح في الدنيا، والفوز في الآخرة لا يكون إلا لمن التزم بطريق الله في دنياه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي * فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة) أخرجه ابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده، وصححه الألباني.
فمن خاف الله في حياته الدنيا أمنه ربه يوم القيامة، ومن استهتر بالطاعة العبادة، فزع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، و (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى:20]
والمؤمن إذا أراد الدنيا فهو يعرف طريقها جيداً ويعرف أنها عنده سبحانه، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:134] فإن تعارضا فهو لا يؤثر الدنيا على الآخرة، فهو يعرف أن الأخرة أبقى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [الأعلى:17] فالآخرة هي الباقية والدنيا ستنتهي ولن يبقى منها إلا صحائف الأعمال، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود، ولا يبيع لذة ساعة، بترحة الأبد، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة، يقول الفضيل بن عياض: لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى والآخرة خزف يبقى لكان ينبغي أن تؤثر خزفًا يبقى على ذهب يفنى فكيف والدنيا خزف يفنى والآخرة ذهب يبقى!!