وكتطبيق لما سبق بيانه من أن تغير المفاهيم الشرعية يؤثر في حياة الناس في الدنيا والآخرة، نذكر هنا أن المفاهيم المشوهة عن الحياة والدنيا والآخرة، حين تستبد بإنسان فإنها تعمي عينيه عن رؤية الطريق الذي يسير فيه، فلا يرى إلا جزءا ضئيلا من المشهد؛ فقد يختزل حياته في نيل شهوة عاجلة، يقف بمجرد نيلها في حيرة من أمره، لا يعرف ماذا يفعل ولماذا يعيش.
وتنعكس تلك المفاهيم على سلوكيات معتنقيها؛ فمن يؤمن بيوم الحساب ويراقب الله، يستحيل ان تكون حياته كالعابث اللاهي الذي لا يخاف الله، ومن يعلم أن الله يُسيِّر الكون بميزان عدل دقيق حتى يقتص للحيوانات من بعضهم يوم القيامة، فيقتص للشاة الضعيفة من الأخرى القوية التي نطحتها في الدنيا، لا يستوي مع من يظن أن الظالم يفلت بظلمه وأن المظلوم لن يأخذ حقه أبدًا، فالسلوك مترتب على الفكر.
والحسرة الكبرى التي يتلقاها من كان ينكر يوم الدين، هي وجوده في هذا اليوم نفسه، فهو لم يستعد له ولم يعمل خيرًا في حياته يستند إليه، فهو يوقن بالهلاك ويود يومها أن يصير ترابًا مع أن الله أنذره وحذره وعلمه الطريق (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ:40]
ولتوضيح أثر المفاهيم الخاطئة للحياة الدنيا والأخرة وعن الله على سلوكيات وحياة وفلاح معتنقيها نضرب لذلك عدة أمثلة:
وتتناسب معدلات الانتحار في دول العالم تناسبًا عكسيًا مع معدلات التدين بحسب الإحصائيات الدولية، وهذا إن دل فإنه يدل على الأثر التدميري للبعد عن الله وإنكار وجوده في هذا الكون، على نفوس البشر، وتثبت الدراسات العلاقة القوية بين الدين والإنتحار و من أولها دراسة للبروفسور الأسترالي José Manoel Bertolote عضو ومشرف مسؤول في منظمة الصحة العالمية، ويعمل حاليا في Australian Institute for Suicide Research and Prevention. تناولت دراساته ظاهرة الإنتحار من مختلف الأبعاد، كالجنس والعمر والجغرافيا والدين، وقد كانت النتيجة في العلاقة بين الدين والإنتحار مرعبة حقيقة[1]، ولعله يلخصها النظر في هذا الرسم البياني:
[1] https://www.iasp.info/pdf/papers/Bertolote.pdf
ولعل أوضح سبب أن الملحد لا يجد في حياته الطمأنينة التي منحها الله لعباده المؤمنين؛ فيعانى من الحزن والاكتئاب، ويتشكك فى كل شىء نتيجة إلحاده وضياعه.
ومن الآثار التي يخلفها الإلحاد في نفوس الملحدين القلق والحيرة والإحباط والاضطراب النفسي والإحساس بالضياع، فضلاً عن اتجاه الملحد أو المُلحدة نحو الفردية والأنانية وما يصاحبها من خوف من الأيام والمستقبل نتيجة عدم الإيمان بالله ـ عز وجل ـ كمدبر للأمور ومصرف لأحوال العباد.
وبسبب هذا تزيد معدلات الإدمان والجرائم والانتحار في المجتمعات، لاعتقاد أنه لا إله قوي قادر أن يراقب تصرفاته وأعماله في هذه الأرض، ولا إله عدل يحكم بين الناس، لأن الملحد فهي هذه الحالة يكون أعمى البصيرة وغليظ القلب منكرًا لنعم الله عز وجل عليه.
فالمجتمع في ظل الإلحاد الذي لا يؤمن باليوم الآخر أشبه بالغابة، التي يحاول كل حيوان فيها أن يفترس الآخر، وبهذا يلجأ الضعيف إلى التخفي والخداع، ويلجأ القوي إلى البطش والقسوة والعنف، نتيجة افتقاد أي منظومة للقيم والأخلاق، فلا حلال ولا حرام ولا شريعة من الأساس.
فالإلحاد يجرد الإنسان من فطرته السليمة التي خُلق بها، ويشوه مفهومه عن الحياة، و(يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء) [الأنعام: 125] مما يجعل الملحد الذي يشعر أن الدنيا هي فرصته الأولى والأخيرة فيهرب إلى الشهوات والملذات ليخدر ضميره، ويسكت صرخات روحه المعذبة، لأنه يعيش بلا يقين حياة بهيمية.
ويرى بعض الملحدين في إلحادهم وعدم إيمانهم باليوم الآخر هربًا لعالم الأهواء الخالي من القيم والقيود حتي يفرغوا شهواتهم وغرائزهم بدون حساب ولا عتاب، ويجمعوا المال كيفما شاءوا وينفقونه فيما شاءوا لعل نفوسهم تشبع قبل الموت الذي هو في تصورهم نهاية المتع ونهاية العذاب، لكنهم يركضون خلف سراب كلما أسرعوا ازداد عطش نفوسهم وكلما زادوا في المتع نقصت سعادتهم وكلما حاولوا الإستمتاع بالمتع ضج الألم في نفوسهم وأرواحهم.
فالنفس البشرية مفطورة ومطبوعة على حتمية وجود إله، والخضوع لهذا الإله، حتى الملحدين الذين لم يعرفوا سوى مذهب الإلحاد في حياتهم، ليسوا استثناءً من هذه القاعدة؛ فإن نفوسهم كباقي البشر تحمل هذه الفطرة التي أودعها الله داخل كل نفس.
وهناك مثال تاريخي شهير تجلى فيه هذا التناقض الصارخ بين الفطرة والإلحاد؛ ففي الصين عندما سيطر الشيوعيون الملحدون على السلطة، وفرضوا مذهبهم الباطل على خمس سكان الأرض، اتجه الناس لعبادة الرئيس الشيوعي نفسه.
فبرغم حظر جميع الأديان، ومنع كل صور وأشكال العبادة، وهدم المؤسسات الدينية كالمساجد والمعابد وغيرها، فقد اتجهوا لتقديس الزعيم الشيوعي نفسه، وشيدوا آلاف التماثيل له وصاروا يتقربون إليها، ويرتلون فقرات من كتابه كل يوم كواجب مقدس، مع أن الشيوعية مذهب إلحادي ليس فيه عبادة.
فالتكوين النفسي لأي إنسان مبرمج على العبادة، ونداء الفطرة موجود داخل كل شخص، ومصادمة تلك الفطرة لا يجلب إلا الشقاء النفسي في الدنيا قبل الآخرة، ولذا لا يسعدون ولا يهتدون، فيجمع الله لهم بين شقاء الدنيا وعذاب الآخرة.
الهَوَى هو محبةُ الإِنسان الشيء وغَلَبَتُه على قلبه، واتباع الهوى هو اتباع ما تشتهي النفس من غير تحكيم العقل أو الرجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة.
قال الشعبي رحمه الله: إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار.
واتباع الهوى مرض عضال لأن صاحبه يجعل الشهوة قائدة له، فلا يأبه لشرع ولا دين، قال قتادة رحمه الله: إن الرجل إذا كان كلما هوي شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى، فقد اتخذ إلهه هواه.
قال الله تعالى واصفًا حال هؤلاء (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23]
قال في التحرير والتنوير: هذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق، فإذا كان الحق محبوبا لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعا للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيام رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث: أرحنا بها يا بلال يعني الإقامة للصلاة... وعن أبي الدرداء: "إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح"، وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة.
فالهوى يصد الناس عن طريق الحق، قال تعالى (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص:50]
يقول ابن القيم: موضحاً هذه القاعدة: "فما هو إلا الهوى أو الوحي، كما قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4] فجعل النطق نوعين: نطقاً عن الوحي، ونطقاً عن الهوى"، ويقول: "فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق، قال تعالى (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) [القصص:50] فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما: اتباع لما دعا إليه الرسول واتباع الهوى
و هوى النفس لا يكاد ينجو منه أحد، وهذه الأهواء ما دامت حديث نفس فإن صاحبها لا يلام عليها، لكن إن اتبعها وأظهرها قولاً أو فعلاً فإنه يلام على ذلك.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: ونفس الهوى – وهو الحب والبغض الذي في النفس – لا يلام عليه فإن ذلك قد لا يملك، وإنما يلام على اتباعه كما قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]. وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص: 50]ويشهد لعدم اللوم على حديث النفس قوله : «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» رواه البخاري ومسلم.
فمنع ورود الهوى على النفس أمر محال، وإنما يكلف الإنسان بالاحتراز منه وعدم اتباعه.
وقد حذر قال النبي من مجاراة الهوى قائلاً (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) حسنه الألباني.
ويروى عن علي بن أبي طالب أنه قال (ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع).
والله عز وجل اخبرنا في القرآن أن اتباع الهوى هو طريق النار وأن كبح الهوى ولجمه هو طريق الجنة؛ قال تعالى): فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 – 41]
وقال سفيان الثوري: أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعًا، وقيل ليحيى بن معاذ: من أصح الناس عزمًا؟ قال: الغالب لهواه.