لتوحيد الربوبية أثر على العبد الموحد بنجاته من الحيرة والشك، فكيف يصاب بالحيرة والشك من يعلم أن له ربًّا هو رب كل شيء، وهو الذي خلقه فسواه، وكرمه وفضله، وجعله في الأرض خليفة، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة؛ فاطمأن إلى ربه ولاذ بجواره، وعرف أن الحياة قصيرة ممزوج فيها الخير بالشر والعدل بالظلم واللذة بالألم.
أما الجاحدون بربوبية الله، المرتابون في لقائه، فحياتهم لا طعم لها ولا معنى، كلها قلق وحيرة وعلامات استفهام متتالية بلا جواب، فليس لهم ركن يلجئون إليه، فتعيش عقولهم ـ مهما كان ذكاؤهم ـ في حيرة وشك واضطراب وقلق، وهذا هو عذاب الدنيا وجحيمها تلفَح قلوبهم صباح مساء.
إن للسكينة مصدرًا واحدًا هو الإيمان بالله واليوم الآخر...الإيمان الصادق العميق الذي لا يكدره شك ولا يفسده نفاق، هذا ما يشهد به الواقع الماثل، وما يؤيده التاريخ الحافل، وما يلمسه كل إنسان بصير منصف في نفسه وفيمن حوله. لقد تعلمنا أن أكثر الناس قلقًا وضيقًا واضطرابًا وشعورًا بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان وبرد اليقين، إن حياتهم لا طعم لها ولا مذاق وإن حفلت باللذائذ والمرفهات؛ لأنهم لا يدركون لها معنى، ولا يعرفون لها هدفًا، ولا يفقهون لها سرًّا، فكيف يظفرون مع هذا بسكينة نفس أو انشراح صدر؟!...
إن هذه السكينة ثمرة من ثمار الإيمان، والتوحيد شجرة طيبة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها؛ فهي نفحة من السماء ينزلها الله على قلوب المؤمنين؛ ليثبتوا إذا اضطرب الناس، ويرضوا إذا سخط الناس، ويوقنوا إذا شك الناس، ويصبروا إذا جزع الناس، ويحلموا إذا طاش الناس، هذه السكينة هي التي عمرت قلب رسول الله ﷺ يوم الهجرة، فلم يَعْتَره هم ولا حزن، ولم يستبد به خوف ولا وجل،
ولم يخالج صدره شك ولا قلق، قال جل وعز:
(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].
لقد غلبت على صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه مشاعر الحزن والإشفاق، لا على نفسه وحياته، بل على الرسول ﷺ، وعلى دعوة التوحيد، حتى قال ـ والأعداء محدقون بالغار: «يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال ﷺ ـ مثبتًا فؤاده: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!" (رواه مسلم)، وهذه السكينة روح من الله ونور يسكن إليه الخائف، ويطمئن عنده القلق، ويتسلى به الحزين، ويستروح به المتعب، ويقوى به الضعيف، ويهتدي به الحيران، هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده؛ منها تهب عليهم نسماتها، وتشرق عليهم أنوارها، ويفوح شذاها وعطرها؛ ليذيقهم بعض ما قدموا من خير، ويريهم نموذجًا صغيرًا لما ينتظرهم من نعيم، فينعموا من هذه النسمات بالروح والريحان والسلام والأمان.
الإيمان قارب النجاة من استغنى بالله افتقر الناس إليه.
كل شيء بيده جل وعز، ومن ذلك النفع والضر؛ فالله هو الخالق جل وعز، وهو الرزاق المالك المدبر، له مقاليد السماوات والأرض، ولذلك إذا علم المؤمن أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر، وأن اجتماع الخلق كلهم على خلاف ما قدره له جل وعز غير مفيد أبدًا، علم حينئذ أن الله وحده هو النافع الضار المعطي المانع؛ مما يوجب زيادة الثقة بالله جل وعز وتعظيم توحيده، ولذا ذم الله من يعبد ما لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عابده شيئًا،
فتبارك القائل: (لَّهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٦٣) [الزمر: 63].
كلما كنت ضعيفا في الصلة مع الله جل وعز، كنت عُرضة للنزعات والنزغات.
وهذا الأثر ظاهر في حياة المؤمن بالله جل وعز، المفرد له بالعبادة والقصد والطلب والإرادة، وعندما يتأمل المؤمن ما لله من ملكوت السماوات والأرض لا يسعه إلا أن يقول: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًا)
[الأنعام: 80]، ويقول: (رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ) [آل عمران: 191]، وكل هذا يدل على تعلق القلب بالرب الخالق جل وعز، وبذل الجهد في مرضاته، والسعي في تعظيم شرعه وأمره، وعدم الشرك به ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكل هذا تعظيم لله جل وعز، وهو من آثار توحيد الربوبية على المؤمن.
في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته.