عندما خلق الله سبحانه وتعالى آدم لم يتركه ساكنا في الجنة ـ رغم جمالها وروعتها ـ وحده بل خلق له زوجه (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:35]
، وكانت هذه أول علاقة في تاريخ البشرية فالإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الحياة وحده دون علاقات.
العلاقات والحب للآخرة
يستطيع الإنسان أن يبني علاقات اجتماعية وعلاقات عاطفية وهو يضع الآخرة نصب عينيه..يستطيع أن يشعر بكل المشاعر الدافئة والحارة والمتوهجة ويستمتع بالقرب والحميمية ومن ثم تغمره كل صنوف السعادة ومع هذا كله يحتسب الأجر والثواب من رب العالمين فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وركب فيه نقاط القوة والضعف ويعلم مدى حاجاته للعلاقات (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء 26-28]
ومن أجل ذلك شرع الزواج (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) متفق عليه..الزواج هو الطريق الوحيد النظيف للعلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة وهو طريق يسعد به كليهما في الدنيا والآخرة (وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا) رواه مسلم
وقس على ذلك علاقة الأمومة والأبوة والبنوة وعلاقات الصداقة مع ذوي الأرحام والجيران وزملاء العمل والجماعة المؤمنة..كلها علاقات لازمة لصحة الإنسان النفسية.
ومن كانت علاقاته ومحبته لله وبغضه لله استكل الإيمان ووجد حلاوته وكان في منزلة يغبطه عليها الأنبياء والشهداء، قال صلى الله عليه وسلم ( مَن أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ) (رواه أبو داوود وصححه الألباني) وقال صلى الله عليه وسلم ( ما تحابَّا الرجلان إلا كان أفضلهما أشدهما حبًّا لصاحبه ) (الأدب المفرد وابن حبان وصححه الألباني)، (قال الله - عز وجل -: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء) ( رواه الترمذي وقال حسن صحيح)، (مَن أحب أن يجد طعم الإيمان، فليحب المرء لا يحبه إلا لله - عز وجل) (رواه أحمد وحسنه الألباني)
العلاقات والحب للدنيا
هناك صنف من البشر لا يعيش إلا للدنيا ينغمس فيها حتى أذنيه مستمتعا يبالغ في الاستمتاع والتكاثر والتفاخر فيها (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) [البقرة:200]
هؤلاء الذين يعيشون علاقات من أجل الدنيا فقط ولا يطمحون من وراء هذه العلاقات لما هو أعلى وأرقى لذا تراهم كثيرا ما يتخبطون في تلك العلاقات:
فالأب يريد أن يفخر بابنه فإن لم يحقق له ما يفخر به تراه ينتقص منه ويشعر بخيبة أمل فيه ومن ثم يحقد الابن عليه ولا يجد مشاعر حب ناحيته ومن ثم تبدأ رحلته مع العقوق...
والزوجة التي لا ترى في حياتها الزوجية إلا حسابات المكسب والخسارة وتتعامل بشح نفسي وعاطفي مع زوجها وربما لا يعني لها أكثر من ممول لاحتياجاتها المادية لا يمكن أن تكون على علاقة حقيقة وصادقة معه والزوج الذي يرى في وسائل التواصل الاجتماعي فرصة للحديث مع النساء ورسم صورة زائفة عن نفسه ربما يعوض بها ما يعانيه في حياته الخاصة فتزداد الفراغات والفجوات بينه وبين زوجته..
وهناك الكثير من هذه العلاقات الشائنة لمن يعيش في علاقات في حدود الحياة الدنيا فقط..حتى هؤلاء الذين يحبون بصدق وحرارة وإخلاص ويتعاملون مع أبنائهم برحمة وعطف ولا يخونون ولا يتخبطون لكنهم لا يضعون الحياة الآخرة في تفكيرهم قد يقعوا أسرى الصدمة النفسية وتقتلهم مشاعر الحزن والاشتياق والحنين في حال الوفاة أو الغياب والبعد الذي هو أحد سمات الحياة الدنيا..صحيح أن مشاعر الحزن والاشتياق والحنين هي مشاعر بشرية يعانيها الجميع سواء من يضع الدنيا فقط نصب عينيه ومن يضع الدنيا والآخرة معا لكن النظر للآخرة يمنع من الصدمة والاحتراق النفسي، كما وأنه يعطي للعلاقة والحب أمد أطول من الدنيا كلها فيلحقهم الله بهم في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ) [الطور:21]
ويجتمعون في الجنة وتستمر العلاقة وتستمر المحبة وتستمر السعادة، فلولا الآخرة لتقطعت قلوب الناس في الدنيا.