محبة الله سبحانه هي أصل دين الإسلام، وهي واجبة بإجماع المسلمين، والعبد مكلف بأن يأتي بما يوصله إلى محبة الله سبحانه، ليستكمل لوازم الإيمان وشروطه.
يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (البقرة:165)
وعن ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين وكما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين فان كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة إما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة".[جامع الفتاوى:10/49]
قال الله عز وجل: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[التوبة: 24]، قال القاضي عياض: " كفى بهذه الآية حضا وتنبيها ودلالة وحجة على لزوم محبته، ووجوب فرضها.
قال القرطبي في التفسير: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ، وقال السعدي في التفسير: وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من الله ورسوله.
ويقول النبي: "ثلاثٌ مَن كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" ]رواه البخاري[ فهنا إشارة إلى ارتباط الإيمان بمحبة الله ورسوله وتفضيلها على ما سواها.
يقول ابن القيم في توصيف بديع لعلاقة المحبة بأعمال القلوب: "المحبةُ شجرةٌ في القلبِ، عروقُها الذلُّ للمحبوبِ، وساقُها معرفتُه، وأغصانُها خشيتُه، وورقُها الحياءُ منه، وثمرتُها طاعتُه، ومادتها التي تسقيها ذكرُه، فمتى خلا الحبُّ عن شيءٍ من ذلك كان ناقصًا" [ابن القيم –روضة المحبين: 1/48]
وكلما تمكنت محبة الله من القلب، وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له. [ابن القيم –إغاثة اللهفان:2/198]
فالتعبد من مراتب الحب، ويقال: عَبَّدَهُ الْحُبُّ وَتَيَّمَهُ: إِذَا مَلَكَهُ وَذَلَّلَهُ لِمَحْبُوبِهِ.
ولهذا فالمحبة حقيقة العبودية، وكل عبادة لا يمكن تصورها من غير محب، فالزهد زهد المحبين، والشكر والخوف والرجاء، والصبر هو صبر المحبين، والعبد يتوكل على المحبوب في حصول ما يرضيه ويحبه، والحياء هو حياء المحبين المتولد بين حبك له وتعظيمك إياه.
وَكَذَلِكَ الْغِنَى هُوَ غِنَى الْقَلْبِ بِحُصُولِ مَحْبُوبِهِ. وَكَذَلِكَ الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَائِهِ. فَإِنَّهُ لُبُّ الْمَحَبَّةِ وَسِرُّهَا. [ابن القيم –مدارج السالكين، سابق]
ولهذا فإن منكر المحبة معطل لكل عبادات القلوب، وحجابه أكثف الحجب، وقلبه أقسى القلوب وأبعدها عن الله.
إذا خلا العمل من المحبة فهو ميت لا روح فيه، ولهذا فنسبة المحبة للاعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، ونفس الإسلام؛ فَإِنَّهُ الِاسْتِسْلَامُ بِالذُّلِّ وَالْحُبِّ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ. فَمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ لَا إِسْلَامَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْعِبَادُ ذُلًّا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَتَعْظِيمًا وَطَاعَةً لَهُ. بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ. وَهُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ. أَيْ تُحِبُّهُ وَتَذِلُّ لَهُ.[ابن القيم- مدارج السالكين:461]
ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم الله لها.
والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها.
بل إنكار محبة الله إنكار للألوهية: يقول ابن تيمية: "فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالله هو المستحق له على الكمال وكل ما في غيره من محبوب فهو منه سبحانه وتعالى، فهو المستحق لأن يحب على الحقيقة والكمال، وإنكار محبة العبد لربه هو في الحقيقة إنكار لكونه إلهاً معبوداً، كما إن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه رباً خالقاً فصار إنكارها مستلزماً لإنكار كونه رب العالمين، ولكونه إله العالمين، وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود"[مجموع الفتاوى لابن تيمية: 10/73]
قال حاتم الأصم - رحمه الله -: "من ادَّعى ثلاثًا بغيرِ ثلاث فهو كاذبٌ: من ادَّعى حبَّ اللهِ بغير ورعٍ عن محارمِه فهو كذابٌ، ومن ادَّعى حبَّ الجنةِ بغيرِ إنفاقِ مالِه فهو كذابٌ، ومن ادَّعى حبَّ النبيِّ بغيرِ حبِّ الفقراء فهو كذابٌ"[أبونعيم- حلية الأولياء: 8/113]
وكان ابن القيم يقول: تأمل أسماء الله وصفاته وقدرته تثمر المعرفة، والمعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء" فمحبة الله مرتبطة بالخشية من غضبه ومجافاة محبته للعبد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: (المحبة، الخوف، الرجاء)، وأقواها المحبة، وهي مقصودة تُرادُ لذَاتِها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة، بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة؛ قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
ويتابع بأن الخوف من الله المقصود منه: الزجر والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقَى العبدَ في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفِها وقوتها يكون سيرُه إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم يجب على كل عبدٍ أن ينتبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبدًا لله لا لغيره"[مجموع الفتاوى]
ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء، فهو المؤمن الموحد: الذي اكتملت عنده أركان العبادة (المحبة، والخوف، والرجاء)، كما قال تعالى عن عباده المقربين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }[الإسراء: 57].